انتهت الجلسات الطويلة للجولة الرابعة لمباحثات سد النهضة إلى موافقة الأطراف على تشكيل لجنة وطنية للإشراف على استكمال دراسات السد كما تم الاتفاق عليها مسبقاً، وتقليل فترة الدراسات إلى 6 شهور بدلاً من سنة تعويضاً لمرور أكثر من 7 شهور منذ الاجتماع الماضى فى يناير دون أى تحرك، وتكليف مكتب استشارى دولى للقيام بهذه الدراسات، والتوافق حول خبير دولى يتم الالتجاء إليه فى حالة اختلاف الدول حول تفسير نتائج الدراسات. والدراسات المطلوبة هما اثنتان، الأولى لدراسة آثار سد النهضة على مصر والسودان من الناحيتين المائية والكهرومائية، والثانية لدراسة آثار السد البيئية والاقتصادية على الدول الثلاث. وهذا الاتفاق يعكس تنازلات من الجانبين المصرى والإثيوبى عن مواقفهما السابقة فى يناير الماضى، مصر تنازلت عن مطلبها باشراك دوليين فى اللجنة الثلاثية وقبلت بمبدأ الاستعانة بخبير دولى وقت الحاجة فقط، وإثيوبيا تراجعت وقبلت بقيام مكتب استشارى دولى بإعداد الدراستين المطلوبتين. وهناك دراسة ثالثة عن الأمان الإنشائى للسد لم تتطرق إليها التوصيات، وذلك لعدة أسباب: أول هذه الأسباب فى رأيى أن إثيوبيا بالفعل على وشك الانتهاء من قاعدة السد، فما فائدة إعداد هذه الدراسات الآن، وثانيها أنه من المؤكد أنه تم تعديل التصميمات الإنشائية بالتنسيق مع السودان لضمان أمان السد، لأن هذا هو المطلب الأهم للسودان الداعمة للمشروع، لأنها ستكون أكثر المتضررين من انهيار السد، وثالثها أن إثيوبيا أيضاً لا تريد أن ينهار السد وتخسر استثماراتها الهائلة فى بنائه. وهناك عدة حقائق يجب أولاً ذكرها، أولاها أن الوزير ملتزم بما تم الاتفاق عليه فى البيان الرئاسى المشترك لمصر وإثيوبيا الذى ينص على أن اللجنة الثلاثية هى المسار الوحيد للتباحث حول السد، والحقيقة الثانية أن اللجنة الثلاثية كما يعلم الجميع ليست لجنة تفاوضية ولكنها للدراسات فقط، سواء الأولى الدولية أو الحالية، والحقيقة الثالثة أن نطاق عمل اللجنة الذى تم الاتفاق عليه وقت الوزير السابق هو وضع آلية لاستكمال الدراسات المطلوبة فى تقرير اللجنة الثلاثية الدولية، والإشراف على تنفيذ هذه الدراسات والتوافق حول نتائجها. وقد فشل الوزير السابق فى التوصل إلى الآلية التى تتوافق حولها الدول الثلاث لاستكمال دراسات السد. وفى رأيى الشخصى فإن السبب الرئيسى للفشل كان لعدم وجود رئيس للبلاد فى ذلك الوقت وتدهور الأوضاع الداخلية، اللذين استغلتهما إثيوبيا لاستهلاك الوقت حتى يأتى رئيس جديد للبلاد، واستمرت هى فى بناء السد. والوزير الجديد نجح فى هذه المهمة واتفقت الدول الثلاث على آلية لاستكمال دراسات سد النهضة، وبالتالى أنجز هذا الوزير ما هو مطلوب منه. ولكن هناك مبالغة كبيرة فى نتائج هذا الاجتماع والعديد من التصريحات الإعلامية التى لا تخدم مصر ولا تساعد فى حل هذه الأزمة الصعبة المتعثرة. وأخطر هذه التصريحات أن إثيوبيا قد وعدت مصر بعدم المساس بحصة مصر المائية وأنها وعدت بألا تنقص زجاجة مياه واحدة من حصة مصر، وهذه اللغة هى نفسها التى تبنتها من قبل جميع حكومات ما بعد ثورة يناير. وإثيوبيا سبق أن صرحت مراراً وتكراراً بأنها لا تعترف بحصة مصر المائية ولا بالاتفاقيات التاريخية الاستعمارية، وهذا الموقف الإثيوبى الذى أيدته دول المنبع كان حجر العثرة لعدم الوصول إلى موافقة جماعية على اتفاقية عنتيبى. إثيوبيا صرحت فى جولة المباحثات الأخيرة (الرابعة) بأنها لا تعترف إلا بالاستخدام العادل والمنصف لمياه النيل، أى لا تقر بحصة مصر المائية وتريد إعادة توزيع مياه النيل على دول الحوض. وهى نفسها التى رفضت الإقرار بحصة مصر المائية فى البيان الرئاسى المشترك فى غينيا الاستوائية، وربطت مبدأ عدم الإضرار بالاستخدامات المائية وليس بالحصة المائية المصرية، وهناك فارق شاسع بينهما. وقد شرح هذا الفارق السيد ميليس زيناوى فى حديثه فى التليفزيون المصرى عام 2010 بأن مصر تستطيع أن ترشد الاستخدامات بكميات كبيرة قد تصل إلى 10 مليارات متر مكعب، أى أن مصر تستطيع الإيفاء باحتياجات نفس الاستخدامات من زراعة وشرب وصناعة بحصة مائية أقل. والسؤال الأهم للشعب المصرى هو هل ما حققه السيد وزير الرى فى الاجتماع الأخير كافٍ لحل مشكلة سد النهضة؟ والإجابة فى رأيى قطعاً لا، ولكنها تساعد فى الحل إذا تم تحرك مصرى سياسى مواز ورؤية واضحة. يجب أن يكون واضحاً للمصريين أن إثيوبيا لا تخشى أن تثبت الدراسات أن سد النهضة له آثار سلبية على مصر وحصتها المائية، بل إنها تعلم ذلك يقيناً. وإثيوبيا كما ذكرنا أعلاه لا تعترف بحصة مصر المائية ولا بالسد العالى ولا باتفاقية 1959، ولذلك فإن ردها المعروف مقدماً أن أى نقص ناتج عن سد النهضة فى حصة مصر المائية هو حق إثيوبى أصيل فى مياه النيل، وهى الدولة التى يأتى منها معظم إيراد النهر لمصر. ما يهم إثيوبيا هو إهدار أطول فترة ممكنة من الوقت قبل انتهاء هذه الدراسات، وحتى تكون قد انتهت من أغلب منشآت السد أو على الأقل الانتهاء من المرحلة الأولى من السد، وبدأ توليد الكهرباء، الذى غالباً ما سيكون مع فيضان العام المقبل. وبعد الانتهاء من الدراسات، ستظهر الضغوط الخارجية والداخلية لقبول الأمر الواقع والتفاوض فقط حول سنوات التخزين مع حوافز إثيوبية بسعر مخفض للكهرباء، مثل ما فعلت مع السودان مسبقاً فى كهرباء سد تكيزى. قد يتساءل القارئ: طيب وماذا بعد؟ وإجابتى سهلة ومباشرة فلنتعلم من إثيوبيا كيف نتعامل مع هذه الأزمة مثلما تعاملت مع السد العالى. لم تستسلم إثيوبيا أبداً وطلبت من مصر المشاركة فى مفاوضات مصر والسودان، ثم قدمت شكوى للأمم المتحدة ضد السد العالى واتفاقية 1959، ثم فصلت الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية، ثم خططت هى وأمريكا لبناء سدود تفشل السد العالى، ثم انتهزت الفرصة المناسبة بعد مرور خمسين عاماً، وبعد قيام ثورة يناير المصرية، لتبدأ فى تنفيذ مخطط السدود الأمريكى وما زال العرض مستمراً. أى يجب على مصر مطالبة إثيوبيا بالتفاوض السياسى المباشر حول سعة سد النهضة، وعلى المستوى الرئاسى إن لزم الأمر. والمفاوضات يكون هدفها عدم المساس بحصة مصر المائية، وذلك على ضوء نتائج الدراسات المقترحة فى اللجنة الثلاثية، من خلال التوافق حول السعة المناسبة لسد النهضة. وتشمل المفاوضات أيضاً إحياء مشاريع استقطاب فواقد حوض النيل الشرقى فى جنوب السودان وإثيوبيا لزيادة إيراد النهر لإعطاء حصة مائية لإثيوبيا وزيادة حصص دول الحوض الأخرى، وذلك فى إطار تنموى يعمل على جذب الاستثمارات إلى المنطقة ونمو الاقتصاد والاستقرار السياسى والاجتماعى، مع تنشيط التبادل التجارى والثقافى بين بلاد حوض النيل الشرقى.