"لا تستسلم وأنت تحاول الوصول إلى هدف تسعى إليه، فالرجل ذو الأحلام الكبيرة أقوى من أي رجلٍ كان"، كلمات أطلقها الكاتب الأمريكي جاكسون براون لتلتقطها عزيمة ذلك الشاب الذي حوَّل عجزه إلى إرادة لا تقهرها الصعاب، واتَّخذ من أشواك اليأس والفشل طريقًا للوصول إلى حدائق النجاح، وقابل صفعات الزمن بابتسامة عريضة مفادها أن الفائز من يضحك أخيرًا وأن العبرة بالخواتيم. أصل الحكاية يعود إلى ذلك اليوم الذي وقف فيه أحمد ناصف، طالب كلية التجارة بجامعة المنصورة، وسط زملائه مفعمًا بالطاقة والحيوية، ينتظر قطارًا يعيده إلى أحضان أهله بعد يوم طويل من العناء، تسيطر عليه لحظة من عنفوان الشباب وتسرعهم فيدفع ثمنها غاليًا، "دايمًا كل يوم كنا متعودين أنا وصحابي نستنى القطر لما ييجي عشان ننزل على القضبان ونقوم ناطين فيه وهو ماشي، ومرة القطر جاي سرعته زايدة وأنا مش واخد بالي، طبعًا ما لحقتش أنط فيه ووقعت تحت عجل القطر، وما فوقتش غير وأنا في المستشفى ورجلي الإتنين حصل فيهم بتر واحدة فوق الركبة والتانية تحتها". النجاة من الموت بأعجوبة والإيمان بقضاء الله كانا كفيلين بتهوين الأمر على الشاب العشريني، قرر أن يتعامل مع واقعه الجديد وكأنه حياته الطبيعية منذ ولادته، لقاء غير محسوب قلب حياته رأسًا على عقب، "بعد الحادثة كنت بروح مركز تأهيل لحد ما يركبولي أطراف صناعية في رجلي، وهناك قابلت بطل السباحة مصطفى خليل اللي كانت حالته زيي تمامًا، عرفت منه إنه أول سباح معاق يعبر المانش وإتحمس جدًا لحالتي وصمم إنه يعلمني السباحة". يجلس ناصف على حافة أحد حمامات السباحة، ينظر إليه بعينين يملأهما القلق إيذانًا ببدء أول اختبار لفرصته الجديدة، "أول ما نزلت المية ابتديت أعوم وكنت فاكر إني هاخد الحمام كله في دقايق، وبعد ما خلَّصت عوم اكتشفت إني ما اتحركتش خطوة واحدة من مكاني وإن كل اللي بيتفرجوا قاعدين يضحكوا عليا"، إلا أن البطل مصطفى خليل أصرَّ أن يبدأ معه الطريق ويؤهله ليكون أحد الذين يسطِّرون أسماءهم بحروف من ذهب في تاريخ سباحة المسافات الطويلة. عناد القدر يستمر، أشهر قصيرة كانت هدنة الزمن بين الأمل الجديد وسقوط "عامود الخيمة" الذي ذهب معه كل معنى للأمان، "أبويا أكتر واحد وقف جنبي وشجَّعني بعد الحادثة، كان كل يوم يروح معاية المركز الأوليمبي عشان أتدرب رغم خوفه الشديد عليا، لما مات ما كانش عندي حل تاني غير غني أكمل وأبقى حاجة". 4 سنوات قضاها الشاب العشريني لتعلم كل مهارات السباحة، البحر أصبح صديقه الوحيد الذي يقضي معه ما يزيد على 16 ساعة في اليوم الواحد، الحلم يقترب ولحظة تحقيقه تلوِّح في الأفق، "في الوقت ده كابتن مصطفى قالي أنا كده دوري خلص معاك، وعرفني بالأب الروحي لكل سباحين مصر كابتن نبيل الشاذلي اللي بدأ معاية مرحلة التجهيز للمانش". رحلة جديدة من التحديات واجهها ناصف خلال استعداده للمانش، مبالغ مالية باهظة كان عليه أن يوفرها لاستكمال برنامج إعداده، فكان الحل في شقة تركها له والده في مواجهة حسابات الزمن الغادرة، "اضطريت إني أبيعها عشان أقدر أغطي مصاريف التغذية والتدريبات، وكان لازم أجيب عربية عشان الانتقالات والسفر من مكان لمكان باستمرار، وكنت بعمل ده لوحدي على مدار سنين كتير ما كنتش لاقي فيها أي جهة ممكن تساعدني في ده". لم يستجب إلى الكثير من الإحباطات ونظرات السخرية التي لاقاها من الكثيرين، وتفرغ لتذليل العقبة تلو الأخرى وأولهم صراعه مع قدميه، "البتر اللي كان في رجلي كان بيخليها ما تتحركش، وده بيتقلني جامد أثناء العوم، فكان لازم أتدرب على إني أعوم من غيرها وإن اعتمادي كله يبقى على كتفي ودراعي، وده طبعًا أخد مني مجهود كبير أوي عشان أقدر أوصل له". "المانش"، ذلك البحر الذي يفصل بين إنجلترا وفرنسا، وهو مضيق مائي يفصل بين بحر الشمال والمحيط الأطلنطي، بات قريبًا من الشاب الحالم بعد 8 سنوات من التجهيز، قرر أن يخوض هذه المرة تحديًا مع الطبيعة، ينزل إلى بحر عميق مجردًا من كل شيء، أسلحته لا تزيد على نظارته وملابس البحر المعهودة، يواجه سفرًا طويلًا من دولة إلى أخرى دون أي توقف. اللحظة المنتظرة حانت، الشاب الحالم تبصر عيناه بحر المانش وتفصله ساعات عن حلمه، مسافة طويلة يقطعها دون توقف، لتحدث مفاجئة تقلب الموازين، "كان فاضل 3 أميال وأوصل للأرض وأكون عبرت المانش، وإذا بسرعة تيار البحر بيزيد بشراسة، وأنا والمركب اللي مرافقاني معرضين للغرق"، الحكم الذي يراقب عبور ناصف للمانش يلغي المحاولة، ليشهد عام 2012 فشل الشاب في تحقيق حلمه. عامان من شحذ الهمة واستنهاض العزيمة وتجهيز البطل لأسلحته من أجل خوض معركة "الثأر من المانش"، الساعة تشير إلى الرابعة من فجر يوم 20 يوليو 2014، الصمت يخيم على المكان ليبدأ ناصف رحلته، أصوات تتعالى من فوق المركب "عاش يا بطل، كمِّل، قربنا"، شريط طويل يدور ببال الشاب لأعوام طويلة من العناء تناديه لتكليلها، صورة "مصر اللي محتاجة فرحة" لم تغب عنه لحظة، 15 ساعة من السباحة دون توقف، الوهن يسيطر على كل جسده والخوف يتملكه من تجدد سيناريو الفشل، صوت الكابتن نبيل الشاذلي يتعالى من بعيد، "بحر المانش أهو يا أحمد، انت شايف حلمك بعينك، فاضل 3 أميال ونص"، الضعف يتحول إلى طاقة تكاد تفلق البحر ويسبح البطل وكأنها الثانية الأولى لبداية رحلته، أصوات التكبير تتعالى، فرحة تنتاب الجميع يصاحبها شعور بالذهول، فها هي ليلة 21 يوليو 2014 تكتب عبور البطل المصري أحمد ناصف لبحر المانش بد 18 ساعة و50 دقيقة من السباحة، "لما وصلت كان التعب قاتلني، لقيت نفسي بتلقائية شديدة باسجد لله وباقول الحمد لله وباكررها كتير أوي".. وقفوا جميعًا مصطفين في استقباله، ينتظرون وصوله إلى أرض مطار القاهرة ليحتفلوا معه بنصر حلموا معه به، "عمري ما هنسى دعم الكباتن مصطفى خليل إيهاب حسنين، وإصرار الدكتورة حياة خطاب على إني أكمل الحلم، ده غير أبويا الروحي كابتن نبيل الشاذلي وولاده مدربيني أسامة وناصر وسامح اللي كانوا معاية في رحلة العبور، ده غير أمي اللي باعتبرها أغلى إنسانة عندي في الدنيا ولولا دعاها عمري ما كنت هعمل حاجة". تكريم الدولة اقتصر على لقاء بسفير مصر لدى إنجلترا للتهنئة بالفوز بعد عبوره للمانش، ثم مقابلة حفية مع محافظ الإسكندرية عقب عودته من لندن، ولا يطمح في أكثر من ذلك "لأني عارف إن البلد فيها حاجات كتير متأزمة، وربنا يكون في عون الجميع". الحلم لم يتوقف عند كونه الشخص الثاني عالميًا الذي يعبر المانش من ذوي البتر المزدوج، بل يرغب ناصف في أن يلاقي بحر المانش في المرة القادمة ويعبره ذهابا وإيابا ليكون اول المعاقين في العالم تسجيلا لهذا الرقم، إلى جانب حلمه بإقامة ماراثون للسباحة الطويلة لكل ذوي الإعاقة من الأسكندرية إلى أسوان، "لو ربنا قدرني وعملت ده هانبعت رسايل كتير أوي للعالم وهاتنشط السياحة، وهنكون عملنا حاجة حلوة لبلدنا اللي نفسي تبقى أحلى بلد في الدنيا".