ناشط سيناوى: مدرستان فى مرمى الكمين.. والأطفال يتعرضون لإطلاق نار مستمر «عبدالعزيز»: قذائف التكفيريين تمر فوق رؤوسنا.. والأطفال أصيبوا بحالات عصبية من فرط الخوف الكمين يعطل حياة 20 ألف نسمة فى المزارع.. وعربات تطعيم شلل الأطفال ترفض دخول القرية «باخاف ولادى يكرهوا البلد.. وبافهمهم إن الجيش بيحارب الإرهاب» خوف الأهالى من الاستهداف حوّل مسجد القرية إلى عنبر لنوم الجنود ينظر فى ساعته، مدركاً أن موعد خروج طفلته من المدرسة قد حان.. تسرى القشعريرة فى جسده ويدب الذعر فى أوصاله، حينما يطرق مسامعه بلا استئذان دوى طلقات متتابعة، تأتى من جهة كمين «المزرعة»، الواقع على بعد 700 متر من مدرسة ابن خلدون الابتدائية، الكائنة فى قرية السطوح، إحدى قرى منطقة المزرعة، جنوب شرق العريش.. يركض لاهثاً تجاه المبنى، غير عابئ بالخطر المحدق به، يرى الطفلة تبكى، ويختلط صراخها بأصوات الرصاص، ليصنع مزيجاً سيريالياً يقذف فى قلبه الرعب، يقترب من الجسد الصغير المرتجف، يلتقفه فى أحضانه، ويلوذ بالفرار. فى البداية فكر عبدالعزيز محمد فى إلحاق ابنته بإحدى المدارس الموجودة بمدينة العريش، والتى تبعد عن قريته بمسافة 5 كيلومترات، لتكون بعيدة عن الكمين الذى يتعرض دائماً لمهاجمة المسلحين، لكنه اكتشف بعد فترة أن هذا الحل لن يكون أكثر أمناً، لأنه سيضطر إلى الذهاب يومياً بالسيارة للمدرسة البعيدة، وفى ظل الظروف الأمنية غير المستقرة قد يقوم الكمين بإغلاق الطريق فى أى وقت، ما يعنى عدم قدرته على الوصول إلى ابنته: «لو حصل ضرب نار على الكمين وبنتى فى المدرسة اللى هنا هاروح لها حتى لو جرى، لكن لو الطريق اتقفل والمدرسة فى العريش مش هاعرف أتصرف». قبل الوصول إلى كمين المزرعة بحوالى كيلومتر، يظهر على الطريق كمين «درغام».. ولا يفصل بين الكمينين إلا بعض الأشجار المتراصة بعشوائية، ومدرسة ابن خلدون الابتدائية.. على يمين «كمين درغام» يقع مصنع للرخام، وعلى يساره يوجد مسجد، لا يرفع فيه أذان، ولا تقام به صلوات، خوفاً من الهجمات الإرهابية على الكمين، التى تجعل بيت الله عرضة لمرمى النيران، فتحول إلى ساحة نوم لجنود الكمين. يقف فوق الجامع، فى الجهة المقابلة للمدرسة، أحد القناصة، على أهبة الاستعداد لإطلاق النار بطريقة عشوائية، بمجرد الاشتباه فى أحد المارة. يجلس «عبدالعزيز»، ابن قبيلة الديابات، فى منزله الذى لا يبتعد عن الكمين 150 متراً من بقايا أشجار الزيتون التى تم اقتلاعها من قبل الجيش، بحجة أن المسلحين يختبئون فيها، يداعب أطفاله الثلاثة، يحتضن ابنه الأصغر.. يتذكر ما كان يحدث فى رمضان الماضى، عندما كان الكمين يتعرض لمهاجمة التكفيريين بشكل يومى: «كنا بنشوف القذايف بتعدى من فوق البيت بشكل مخيف».. يحمد ربه على عدم وجود بيوت عالية فى القرية، حيث إن أغلب المبانى لا تتجاوز الطابق أو الطابقين. 6 أشهر مضت، لم يتعرض كمين المزرعة لأى هجوم إرهابى، ولم ير «عبدالعزيز» وعائلته القذائف تمر من فوق رأسه، ورغم ذلك فإن الكمين يفرض على أهل قريته حصاراً يبدأ من الساعة الرابعة عصراً، حتى صباح اليوم التالى، يمنع دخول أو خروج أى شىء من القرية فيعزلها عن العالم، فى تأهب لإطلاق وابل من الرصاص فى الهواء عند الاشتباه، بطريقة تنشر الرعب بين الأهالى.. يقول ممتعضا: «لما نسمع صوت ضرب نار على الكمين البيت كله بينبطح، والأطفال اتدربت على ده مع الوقت.. ابنى الصغير اتعود كل ما يسمع صوت ضرب نار يدخل تحت السرير.. الانبطاح بيكون جنب الحيطة كأنها ساتر، زى فكرة الزلازل أو الكوارث الطبيعية». «قرية السطوح»، التى يقيم فيها «عبدالعزيز» وأسرته، تجاور قرى الكاشف، وبلى، والسلام، ولحفن، وتجمعات المزارع، ومطار العريش.. تجمعات يسكنها قبائل «السواركة والتياها والطواغين والبلى والملاعبة».. يشكلون نحو 20 ألف نسمة، شاء حظهم العثر أن يتم إنشاء كمين على الطريق الذى يعتبر منفذهم الوحيد للمدينة، وبعد الساعة الرابعة عصراً يبدأ الحبس الانفرادى لهذه القرى، فلا خروج ولا دخول، ومن يحاول يعرض نفسه لمخاطرة غير مأمونة العواقب: «مش بنعرف نتحرك والإسعاف مش بتيجى ولو بالطبل البلدى».. وعلى الرغم من العدد الكبير نسبياً الذى يقطن هذه القرى، فإن البنية التحتية بها تكاد تكون منعدمة، فلا مياه شرب أو أسواق تجارية، وباستثناء مستشفى الحميات، لا دليل على رعاية صحية فى هذه القرى: «القرية موصلهاش مية للشرب وبتعتمد على عربيات المية بتاعة المحافظة، والعربيات دى بقالها 10 أيام ماجتش عشان وضع الكمين، وتطعيم الأطفال حصل فيه خلل السنة دى بسبب الكمين، والممرضين خافوا ييجوا القرية عندنا عشان الكمين». طلقات احترازية يطلقها كمين المزرعة أو «المحاجر» أثناء حديث «عبدالعزيز»، الرجل الأربعينى، مع «الوطن»، ترتعش ابنته، بينما يحتضنه ابنه الصغير.. يذكره صوت إطلاق النار وخوف أولاده بموقف حدث فى رمضان الماضى، حينما كان يجلس وسط عائلته وقت الإفطار، فى انتظار أذان المغرب، لكن الأسرة الصغيرة سمعت عوضاً عن نداء الحق، دوى قذيفة، أطلقها مسلحون من خلف القرية، لتمر من فوق منزلهم البسيط، لتستقر بجوار الكمين، ما أعقبه الرد بإطلاق نار هستيرى من قبل الجنود: «قمنا مفزوعين من على الأكل.. فى اليوم ده مفطرناش أنا وولادى ومراتى من الخوف إلا بعد صلاة التراويح، لما الدنيا هديت شوية». ترتفع وتيرة الطلقات، وتنشط معها ذاكرة «عبدالعزيز»، فيسرد موقفاً آخر حدث فى عيد الأضحى الماضى، حينما كان يساعد زوجته ووالدته فى تنظيف المنزل وغسل المفروشات أمام بيته، ففوجئ بقذيفة هاون، تمر على مقربة من رؤوسهم، لتستقر بالقرب من الكمين، فتحدث هزة أرضية وفزعاً فى قلوب الأطفال المنشغلين بترديد أغانى العيد، يضم «عبدالعزيز» ابنه إلى صدره متابعاً: «بدأت أنشّط ولادى وطنياً وأفهمهم إن الكمين ده موجود لحمايتهم، وإن الجيش المصرى هو اللى حامينا من الإرهاب، لأنى خايف اللى بيشوفوه يأثر عليهم وعلى حبهم للجيش لما يكبروا». يجلس الشاب البدوى «أ.س» -رفض ذكر اسمه خوفاً من ملاحقة الأمن أو التكفيريين- أمام نيران متقدة، وبراد من الشاى، لا يظهر طلاؤه من فرط السواد الذى خلفته النيران، يتسامر هو وجيرانه حول 500 فدان من أشجار الزيتون، التى اقتلعتها قوات الجيش من أراضيهم خلال خطة تأمين الكمين، غير مبالين بدوى الطلقات المستمر حولهم، حتى باغتتهم رصاصة، اخترقت البراد، فسال الشاى ليروى أرضهم المجدبة، وانتهت الجلسة على الفور، خوفاً من أن تصيبهم واحدة من تلك الرصاصات. يدخل إلى منزله، يتطلع إلى زوجته التى تحمل ابنه المنتظر بين أحشائها، تتألم ولا يستطيع مساعدتها، فعربات الإسعاف ترفض باستمرار الولوج إلى منازل المزرعة القريبة من الكمين، فما كان منه إلا أن قرر إرسالها فى الصباح إلى أهلها بالإسماعيلية، هرباً من الكمين الذى حول المنطقة إلى «سجن»، يحبس أهل المنطقة بذنب التكفيرين: «الجيش بياخذنا بذنب الإرهابيين، وبنتعامل معاملتهم». تحول «أ.س» من صاحب ثلاثة أفدنة، إلى «حلاق»، بعدما اقتلع الجيش شجر الزيتون: «بنقعد نرعى شجر الزيتون أربع سنين عشان يطرح بعد 6 سنين، الجيش جه وقطع كل الشجر»، فالقوات المسلحة اقتلعت كل الأشجار المنزرعة حول محيط الكمين بمسافة تقدر ب100 متر، حتى لا يستطيع التكفيريون استخدامها لإطلاق قذائفهم: «ناس حالها أصعب من حالى ومزرعتها اتجرفت كلها، وقلت مصيبة أخف من مصيبة، كان من الممكن أن يتم اعتقالى أو حد من اخواتى بحجة إن مزرعتنا بيتم مهاجمة الكمين منها». وعدت المحافظة بتعويض «أ.س» وغيره ممن خسروا أرضهم ب«1500 جنيه» للشجرة.. عاود المضارون مطالبتهم بعد تأخر صرف التعويضات، فأخبروهم أن المبلغ أصبح 450 جنيهاً للشجرة، مع اشتراط عدم زرع الشجر مرة أخرى: «وفى الآخر مخدناش تعويضات لحد دلوقتى، والأرض بقت فاضية، ولما حاولنا نزرعها طماطم انضرب علينا نار من الكمين». يوضح أن ما تم تجريفه فى حى المزرعة تجاوز ال50% من مزارع الحى. «قذائف الهاون ورصاص المتعدد بجميع أنواعه كان بيعدى من فوق البيوت».. حال يصحو وينام عليه أهل بيت «أ.س»: «قبل 30 يونيو كان الكمين بيتهاجم.. معاملة الجيش للأهالى أصبحت صعبة.. إحنا بنعتبر نفسنا فى منطقة عسكرية بسبب الكمين، بالرغم من أنه بقاله ثلاثة شهور متعرضش لمهاجمة، لأنهم طهروا المنطقة من الإرهابيين، وفى الغالب بنتعرض لضرب نار وإحنا معديين إذا اشتبه فينا الجيش». «إحنا عاملين زى السندوتش بين الأمن والإرهابيين، وده الأول كان مبرر لكن دلوقت لا».. يملك اليقين أن الجيش استطاع تطهير المزرعة من الإرهابيين، وأن الوضع اختلف عن سابقه حين كانت المنطقة درعاً للتكفيريين، يقومون من خلف بيوتها بإطلاق الرصاص والقذائف على الجيش، والكمين كرد فعل يضرب فى القرية. على مقربة من منزله يقبع مستشفى الحميات، خاوياً على عروشه، فارغ لا يسكن فيه سوى ضباط وعساكر الجيش، اتخذوا منه مسكناً، علاوة على وضعه تحت سيطرتهم، فهرب منه الأطباء والممرضون: «انضرب من فوقه صاروخ على قوات الأمن، فبقى شبه مغلق بسبب تأمين الجيش له ومبقلهوش لازمة، مع إنه كان بيعالج أهل المنطقة من الأمراض الجلدية». فى منتصف الليل، يغفو بعد أن هدأت وتيرة الطلقات، يرنو إلى نجله الصغير ويبدو على ملامحه الحزن: «الطفل جاتله نوبات عصبية، لما ييجى ينام إيده ورجله بتبقى فيهم رعشة، ولما يحصل ضرب نار بيعيط كتير»، فالخوف نال الطفل ووالده، ووصل الأمر إلى الزوجة وكل أهل البيت.. الخوف بات مرضاً يعانيه كل أهل المنطقة: «سألت جيرانى فى الموضوع ده فقالولى إن حالهم نفس حالى.. ناس كتير من الأهالى عزّلت من المنطقة بسبب الكمين، فى الوقت اللى أسعار البيوت والأراضى رخصت ومحدش راضى يتشتريها، الأول كان سعر الفدان يعدى ال200 ألف، لكن دلوقت ميوصلش ال25 ألف، لو لقينا له مشترى أصلاً». **