عندما كنت أعمل في جامعة كليمسون الأمريكية في باكورة الألفية الثانية طلب منى محرر أحد الكتب أن أقوم بمشاركته في كتاب عن أحدث بحوثي في هذا الوقت، وبالطبع لم أتردد، وشرعت في إعداد الفصل المطلوب من الكتاب الذي علمني الكثير من التجارب التي لا تنسى أبدا، ومنها أنه قد تم تحديث ومراجعة هذا الفصل أكثر من 34 مرة قبل النشر، ورفض محرر الكتاب كل المراجع البحثية من دول العالم الثالث كالهند وباكستان، ومن الصين ومن جميع دولنا العربية بما فيها مصر، وهو الأمر الذى آثار حفيظتي للغاية وأدخلني في معركة فكرية كبيرة مع محرر هذا الكتاب. في البداية اتهمته بالعنصرية، وبأنه ينظر نظرة متدنية لعلماء الدول الأخرى، وأن هذا لا يليق بعالم متميز في مجال البحث العلمي. وفى الحقيقة تقبل هذا الأستاذ الأمر بروح عالية، وتفهم موقفي، وأعتذر، ولكنه بذل مجهودًا كبيرًا في إقناعي بالسياسات العلمية التي ينتهجها وتنتهجها دار النشر الأمريكية التي نشرت هذا الكتاب. كانت لديه العديد من الأسباب المبنية على تجاربهم السابقة مع هذه البحوث، ومنها عدم مصداقية الكثير من البحوث، وتزوير النتائج، وعدم قابليتها للتطبيق مرة أخرى، وعدم المنهجية العلمية، وعدم تطبيق الطرق العلمية والإحصائية المعتمدة في تصميم مثل هذه البحوث وتحليل نتائجها. وقدم لي تقريرًا قام بإعداده فريق كبير من الكتاب والمحررين والباحثين الأمريكيين خلص إلى أن دخول مثل هذه الدول مجال البحث العلمي أخر تقدم العلوم ما يزيد عن 50 عامًا! وبالطبع قرأت التقرير بنهم وبشغف شديدين، وهو مكتوب بطريقة علمية وإحصائية وتحليلية متميزة، ولا يرجع تخلف البحوث العلمية في دول العالم الثالث للعامل البشرى، أو لتدنى الأخلاقيات العلمية فقط، ولكنه يعدد أسباب هذا التدني في نتائج البحوث العلمية للعديد من الأسباب المادية المعروفة، ومنها ضعف التمويل وعدم توافر الإمكانيات العلمية كالأجهزة الحديثة والتكنولوجيات المتقدمة والكيماويات والمياه النقية، كما تحدث التقرير عن نظم الترقيات العلمية التي تعتمد على البحوث المنشورة بغض النظر عن قيمتها العلمية، وطبيعة نتائجها، والمشكلات التي تحلها، والكثير من الأسباب التي شعرت للأسف الشديد بمصداقيتها، وبأن هؤلاء العلماء يدركون جيدا المشاكل المهنية المعقدة التي تواجه الباحثين والعلماء في بلادنا. تذكرت هذه الحادثة مؤخرًا بعد أن عاش المجتمع العلمي العالمي أجواء هذه المناقشات أيضًا، بعد أن قامت مجلة "نيتشر" العلمية العالمية بسحب بحثين نشرهما فريق من العلماء اليابانيين والأميركيين في المجلة بقيادة هاروكو أوبوكاتا (30 عاما)، بسبب عدة أخطاء خطيرة ومتعددة تقوض مصداقية الدراستين. وبعد أن وصف رئيس معهد ياباني فائز بجائزة نوبل في الكيمياء أسلوب تعامل كبيرة الباحثين في معهده مع البيانات بأنه "غير متقن" و"غير مسؤول"، وذلك بعد تلقيها مع فريقها البحثي الثناء على عملهم في الخلايا الجذعية، وإشادة بأنهم غيّروا القواعد العلمية الراسخة في مجال الطب الحيوي. وقد فصلت الورقتان البحثيتان، طريقة بسيطة لإعادة برمجة خلايا حيوانية ناضجة لتحويلها إلى حالة شبه جنينية تتيح لها توليد أنواع عديدة من الأنسجة، مما يسمح للعلماء بتوليد أنواع كثيرة متباينة من الأنسجة، وهو الأمر الذي يفتح أبواب الأمل أمام استبدال الخلايا التالفة أو استنباط أعضاء جديدة للبشر. وبدا أن هذه النتائج تتيح إمكانية إعادة برمجة الخلايا البشرية في المستقبل ببساطة وبتكلفة زهيدة، بما يمكن معه استبدال الخلايا المصابة أو التالفة أو لاستنبات أعضاء جديدة للمرضى والمصابين. ووصف كثير من الخبراء البحث عندما نشر في يناير الماضي بأنه سيغير مفاهيم علمية، لكن سرعان ما ثارت التساؤلات بشأن البحث، فيما عجز العلماء الآخرون عن تكرار هذه النتائج المذهلة، ولهذا أجرى معهد ريكين الياباني للأبحاث العلمية تحقيقًا عن البحث ووصف بعض الأخطاء بأنها سوء تصرّف. وقال معهد ريكن إن التحقيقات التي أجراها توصلت إلى أن أوبوكاتا سرقت بحوثا ولفقت ورقتين بحثيتين، ما فجّر شكوكا بشأن مدى صدق البحوث العلمية في اليابان، وأدى لفضيحة علمية كبرى. وخلصت اللجنة إلى أنه إلى جانب أشياء أخرى فإن بعض الصور في واحدة من الدراستين المنشورتين في دورية "نيتشر" أخذت من رسالة دكتوراة أوبوكاتا، والتي كانت على تجارب مختلفة. وأن صورة أخرى تم تعديلها بصورة مصطنعة (بالفوتوشوب). كما فشلت فرق بحثية أخرى حول العالم في إنتاج خلايا جذعية بنفس الطريقة الواردة في البحث. فضلا عن مزاعم بنقل منهجية البحث عن بحث علمي آخر. وقال رئيس اللجنة شونسوكي إيشي في مؤتمر صحفي إن مثل هذه الأفعال تدمر مصداقية البيانات تماما، مضيفا أنه ليس هناك أدنى شك بأن الباحثة كانت على علم تام بهذا الخطر. وتوصلت مراجعة قدمها كينيث كا-هو لي، من الجامعة الصينية، إن بساطة الطريقة التي توصل بها البحث لإنتاج الخلايا الجذعية: "أثارت شكوك القراء. لقد فعلنا ما بوسعنا لإنتاج الخلايا الجذعية بنفس الطريقة، لكنها لم تكن بالبساطة التي توقعناها، مما يجعل فعالية هذه الطريقة محل تساؤل." وقال تيروهيكو واكاياما، من جامعة ياماناشي، للتليفزيون الياباني: "كنت أعتقد أن التجربة سليمة تمامًا أثناء تطبيقها، ولكن الآن بعد ظهور عدة أخطاء، أعتقد أنه من الأفضل سحب البحث وإعادة إثبات صحته باستخدام المعلومات والصور الصحيحة". وأضاف: "إذا اكتشفنا أن البحث غير سليم بالمرة، فسيكون علينا إيضاح الأسباب التي أدت لحدوث ذلك." واتهمت أعلى هيئة بحثية في اليابان الباحثة الرئيسية وراء الورقتين البحثيتين عن الخلايا الجذعية ب"سوء السلوك المقرون بالتلفيق"، في حين قالت الباحثة اليابانية أوبوكاتا إن نتائج التحقيق غير مقبولة وإنها ستتقدم قريبا بشكوى إلى مؤسسة "ريكن" تدحض فيها النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق. ولكن تحت ضغوط من بعض زملائها في البحث، قبلت أوبوكاتا بسحب دراسة نشرتها دورية "نيتشر" في يناير الماضي، ووافقت على سحب ورقتين بحثيتين، الأمر الذي يعمق شكوكاً بشأن نتائجها التي قلبت موازين البحث العلمي رأسا على عقب، وبعد اتهامها بتلفيق نتائج علمية كانت قد وصفت في بادئ الأمر بأنها تمثل انطلاقة هائلة في مجال بحوث الخلايا الجذعية على الرغم من أنها دافعت بشدة في البداية عن البحث في مواجهة التشكيك والانتقادات، لكنها عادت ووافقت على سحبه، ووقعت على مستند يتضمن الموافقة على سحب الورقتين البحثيتين. وقال متحدث باسم معهد ريكن، الذي تعمل لديه الباحثة، إنه بعد دفاعها المستميت عن جهودها العلمية خلال مشاحنات علنية نادرة استمرت شهرا مع المؤسسة البحثية، وافقت أخيرا على سحب الورقتين البحثيتين. وقدم روجي نويوري، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء في 2001، رئيس معهد ريكن في اليابان اعتذاره في مؤتمر صحافي، وقال إن "المشكلة تكمن في أن باحثة غير ناضجة جمعت كمية ضخمة من بيانات البحث، وكان تعاملها مع هذه البيانات غير متقن جداً وغير مسؤول"، مضيفاً وهو ينحني بشدة: "أود أن أقدم اعتذاري عن المقالتين اللتين نشرتا في دورية "نيتشر" واللتين شككتا في مسألة مصداقية المجتمع العلمي". وكان روجي نويوري يشير إلى أوبوكاتا، والتي أضحت مشهورة بين عشية وضحاها في اليابان وفى جميع دول العالم بعد نشرهما. وقال نويوري، في بيان له: "أريد في البداية أن أعرب عن خالص أسفي أن مقالات لعلماء في رايكن نشرت في مجلة "نيتشر" تسببت في التشكيك في مصداقية المجتمع العلمي." وأضاف "نحن نحقق في الأمر، ونعي أنه قد يتوجب علينا طلب حذف المقالات". وقالت الهيئة البحثية إنها لم تقرر بعد العقوبة التي قد تفرض على الباحثة. وأتمنى أن تغزو ثقافة الاعتذار جميع دول العالم من الشرق إلى الغرب، وأن يدرك الباحثون جيدا قيمة البحث العلمي، وأن يحافظوا على سمعتهم العلمية وسمعة مؤسساتهم البحثية، وسمعة دولهم ومصداقيتها بين دول العالم مثلما يفعل اليابانيون، كما أتمنى أن يأخذ الباحثون مسألة الأمانة العلمية بمزيد من الجد والحزم، وأن يفعلوا أي شيء في سبيل الحفاظ على مصداقيتهم العلمية، وأن يعتذر من أخطأ أو قصر في بحوثه، إذا تبين له أي خطأ علمي أو منهجي أو عملي في بحوثه المنشورة، وهي بالطبع ثقافة حميدة جديرة بالتقدير والاحترام، ونتمنى لها الانتشار في الأوساط العلمية المحلية والعالمية. * أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة-المملكة العربية السعودية.متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية-قسم النبات، كلية العلوم، جامعة القاهرة.