ربما تسمع فتاوى غريبة، أو آراء فقهية لا تخطر على بالك. لكن الإسلام علّمنا ألا ننزعج ولا نعظم ولا نخاف من أى فتوى نسمعها، فما على المكلف العاقل إلا أن يجرى ما يسمعه من فتاوى على قلبه أو يقيمها فى عقله، فإن ارتاحت نفسه بها ووجد المنفعة أو المصلحة فيها أخذ بها وإلا فلا شأن له بها؛ لأن الفتوى عمل بشرى غير معصوم، وشرع لخدمة الإنسان وتيسير أموره، فلو لم يحقق الغرض منه فلا داعى له ونعيش بالفطرة السوية مثل المسلمين فى اليابان وكوريا والصين وغيرها من البلاد التى تنعدم فيها صناعة الفتوى وكل مسلم فيها مسئول عن نفسه أمام الله. لكن يبقى السؤال المحير: ما سر رواج صناعة الفتوى فى مجتمعاتنا العربية؟ ولعل الجواب هو أن أكثر العرب يعطونها قدسية وتعظيماً مثل القرآن والسنة. وللأسف بعض الناس عاجزين عن التفرقة بين نصوص القرآن والسنة التى تعطيهم العذر إذا لم يفهموها فيسقط عنهم التكليف وإذا فهموها خطأ بحسن النية فهم معذورون. يعنى أنهم مع القرآن والسنة فى رحمة واسعة. أما الفتاوى التى هى اجتهادات واستنباطات، فإنها تحسم وتضيق عليهم فى الاختيار، ومع ذلك فهؤلاء الناس يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير. لا بد من تغيير ثقافة المجتمع فى تعظيم الفتوى حتى نجبر أصحاب الفتاوى على العودة لوظيفتهم الأساسية وهى طلب العلم وعرض الأقوال الفقهية بالأمانة والبحث عن مخارج فى القرآن والسنة تيسّر على الناس العبادة وتفتح لهم آفاق الرزق، أو أن يتركوا الناس فى رحمة القرآن والسنة الواسعة. وفى هذه الأنبوشة سنذكر ثلاثة أحكام تناولها فقهاؤنا العظام بطريقة علمية لو وصلت لأوصياء الدين فى هذا العصر لذبحونا بسلاح التشكيك حتى نفقد الثقة فى أنفسنا: (1) حكم الصوم مع عدم الحرص على وقت الصيام. (2) حكم الصوم مع قطع النية فيه. (3) حكم الصوم مع عدم تعظيمه بالبعد عن المعاصى. أولاً: حكم الصوم مع عدم الحرص على وقت الصوم ابتداءً وانتهاءً: تساءل الفقهاء فى حال ما لو أن الصائم غلب على ظنه غروب الشمس فأفطر، ثم تبين له بعد ذلك أن الشمس لم تغِب. وفى حالة أخرى: لو أن الصائم غلب على ظنه بقاء الليل فتسحر، ثم اكتشف أنه تسحر بعد طلوع الفجر، فما حكم الصوم؟ وفيه مذهبان: المذهب الأول يرى فساد الصوم لمن أكل أو شرب مع غلبة ظنه أنه يأكل فى الليل فاتضح بخلاف ذلك، وهو مذهب جمهور الفقهاء، قال به الحنفية وأكثر المالكية والشافعية والحنابلة. وحجتهم أنه ارتكب جناية عدم التثبت وليس جناية الفطر؛ لأنه لم يقصده. المذهب الثانى: يرى صحة الصوم، ولا قضاء على من أكل أو شرب بغلبة ظنه أنه فى الليل فظهر غير ذلك. وهو قول بعض المالكية والشافعية والحنابلة واختاره ابن تيمية وبه قال ابن حزم الظاهرى. وحجتهم أن الأحكام الفقهية مبناها غلبة الظن؛ فهو لم يرتكب جناية بفطره؛ فقد أخرج ابن ماجة والحاكم بسند فيه مقال عن ابن عباس أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه»، كما أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من نسى فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه». وأخرجه الترمذى بسند صحيح عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله». أقول: بهذا العرض الأمين الراقى انتهى دور الفقهاء؛ فقد قدموا ما لديهم من علم ولم يقوموا بدور الجلاد لحشد الناس لرأى معين؛ لأن هذا السلوك فيه اعتداء على سيادة الإنسان وحقه فى الاختيار والاقتناع. ثانياً: حكم الصوم مع قطع النية فيه. وصورة المسألة: أن يكون صائماً ثم يحدّث نفسه فى أثناء النهار أن يفطر حتى يقرر فى لحظة معينة أنه سيفطر، أو ينوى بقلبه قطع صومه دون أن يأكل شيئاً أو يرتكب ما يحقق الفطر، فهل يبطل صومه بهذه النية أم لا لأنه لم يأكل؟ وفيه مذهبان للفقهاء: المذهب الأول يرى أن نية قطع الصوم تفسده ويوجب القضاء، ولو لم يأكل أو يشرب أو يجامع. وهذا مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية وبعض الشافعية. وحجتهم أن إنشاء الصوم كان بنية، فكذلك إنهاء الصوم يكون بنية؛ خاصة وقد أخرج البخارى ومسلم عن عمر بن الخطاب أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما الأعمال بالنيات». المذهب الثانى يرى أن نية قطع الصوم دون فعل ما يفسده كالأكل والشرب لا تبطله، بل لا يزال الصائم على صومه. وهو مذهب الحنفية والشافعية وابن حامد من الحنابلة. وحجتهم أن إنشاء الصوم لا يكون بالنية فقط، وإنما يكون بالنية مع الإمساك عن المفطرات. كما أن الفطر لا يكون بمجرد النية بل بتناول المفطرات أيضاً، وهذا الذى نوى قطع صومه لم يأكل أو نحوه، فلا يزال على صومه كالمصلى ينوى الكلام الخارج عن الصلاة ولم يفعل؛ فهو على صلاته. فكذلك هذا الصائم. وأيضاً فإن عبادة الصوم تلزم المضى فى فاسدها فلم تفسد بنية الخروج كالحج. أقول: وبعد هذا العرض نكتشف أنه لو علت أصوات المذهب الأول القائل بفساد الصوم لمجرد قطع نيته لوقع كثير من الناس فى حرج ووسوسة عند البعض. ولو علت أصوات المذهب الثانى الذى يرى صحة الصوم واستمراره حتى مع قطع نيته لحدث تهاون فى شعيرة الصوم عند البعض؛ لذلك كان من العدل أن نعرض العلم بأمانة، ثم نترك الناس أسياداً فى دين الله. ثالثاً: حكم الصوم مع عدم تعظيمه بالبعد عن المعاصى: المقصود بذلك هذا الصائم عن الطعام والشراب والشهوة، ثم يأتى بمعصية لا تليق بحرمة الصوم وتعظيمه، مثل الكذب أو شهادة الزور أو الغيبة أو النميمة أو تعمد ترك الصلاة المكتوبة أو إيقاع ظلم بأحد من خلق الله، أو غير ذلك من كل ما حرمه الإسلام. فهل يصح صومه اعتباراً بالجوع والعطش، أم لا يصح هذا الصوم اعتباراً بالمعصية التى لا تليق مع الصوم؟ وفيه مذهبان للفقهاء: المذهب الأول يرى بطلان صوم كل صائم تعمّد أى معصية ففعلها. وهو مذهب الظاهرية، وحكاه ابن حزم عن عمر وعلى وجابر وأنس وغيرهم من الصحابة؛ استدلالاً بما أخرجه البخارى وابن ماجة واللفظ له عن أبى هريرة، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من لم يدَع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه». وأخرج أبو يعلى فى «مسنده» وابن حزم فى «المحلى» بسند ضعيف عن عبيد مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن امرأتين كانتا صائمتين، فكانتا تغتابان الناس. فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقدح فقال لهما: «قيئا» فقاءتا قيحاً ودماً ولحماً عبيطاً. ثم قال: «إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام». المذهب الثانى يرى صحة صوم العصاة الذين التزموا بشكل الصوم بالامتناع عن الطعام والشراب والجماع فى زمنه وارتكبوا معاصى كالكذب والغش، وهو مذهب الجمهور فى المذاهب الأربعة. وحجتهم عدم تداخل الأحكام؛ فالصوم يثيب صاحبه، والمعصية تؤثمه. أقول: هكذا تكون الأمانة العلمية لتمكين الناس من الاختيار؛ فالفقهاء أصحاب الأقوال التى ذكروها لا يهدفون إلى الوصاية على الناس، وإنما يهدفون إلى تنويرهم وفتح الآفاق أمامهم؛ ليتخذوا قراراتهم التى تريح قلوبهم. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة أخرى.