نُودى بالخلافة بالعراق ل«الحسن بن على» بعد استشهاد أبيه، فى حين نُودى بها فى الشام ل«معاوية»، ولم يكن الحسن رجل حرب أو صراع، فآثر أن يحقن دماء المسلمين، وتنازل عن الخلافة لمعاوية، شريطة أن تؤول إليه حال وفاة الأخير. وقد أثار هذا الأمر غضب من تحلقوا حول «الحسن» من المسلمين، إلى درجة أن وصفوه ب«مُذِل المسلمين»، فقام فى الناس خطيباً -كما يحكى ابن قتيبة صاحب كتاب الإمامة والسياسة- وقال: «أيها الناس إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكان لى فى رقابكم بيعة تحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى معاوية». ويكاد يكون النص السابق هو النص التأسيسى لمفهوم قدرية الحاكم الظالم، وأنه ربما يكون فتنة أو عقاباً من الله، وأن على الناس أن يصبروا عليه، لأن الخروج عليه يمكن أن يؤدى إلى مقتلة أعظم، يجب على المسلمين أن يتجنّبوها بالسكوت على ظلم الحاكم. ويكاد هذا المفهوم يكون المفهوم التأسيسى الذى ارتكز عليه أهل السنة فى إقرار مبدأ طاعة الحاكم المتغلِّب (بالسيف) وتحريم الخروج عليه، وأن طاعته واجبة حتى لو كان ظالماً. ويوصف الخروج على الحاكم فى الفقه السنى ب«البغى». ويخلط الكثير من المنظّرين للحدود الشرعية بين معانٍ متضاربة يتم استقاؤها من القرآن والسنة عند تحديد معنى جريمة «البغى». فهم يستندون فى حديثهم عنها إلى الآية القرآنية التى تقول: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الحجرات - آية 9)، فقد تم اشتقاق المصطلح المعبّر عن هذه الجريمة من تلك الآية، رغم أن معناه فيها لا ينصرف بحال إلى فكرة الخروج عن الحاكم، وإنما يتعلق بتحديد موقف المسلم عند مواجهة حالة اقتتال بين فرقتين أو طائفتين مسلمتين، فالمطلوب منه عندما يشهد ذلك الانضمام إلى الفئة المظلومة فى قتال الفئة الباغية. ومعنى «الطائفتان» -كما يُفهم من تفسير ابن كثير للآية الكريمة- قد ينصرف إلى قبيلتين مثل الأوس والخزرج، أو عائلتين، أو فرقتين من المسلمين. ورغم أن المعنى واضح فى الآية الكريمة، فإن الفقهاء استندوا فى بلورة مفهوم جريمة البغى وتحديد عقوبتها إلى بعض الأحاديث النبوية التى لا ترتبط بسياق تحديد الموقف من طائفتين مسلمتين احتدم بينهما القتال. من بينها الحديث النبوى الذى يقول: «من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». والحديث القائل: «ستكون هنات وهنات -ورفع صوته- ألا من خرج على أمتى وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف، كائناً من كان». وفى رواية «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه». والواضح هنا أن المسألة لا تتعلق بطائفة تقاتل طائفة، بل تتعلق بفرد أو مجموعة أفراد -داخل جماعة ساكتة وساكنة- يتمردون على حاكم أو أمير. والسؤال لماذا نفسر سكوت الجماعة على أنه نوع من الرضا، لماذا لا تكون الطاعة للحاكم مدفوعة بالخوف منه أو الرهبة من رد فعله على تمردهم، خصوصاً وهو يمتلك تصريحاً شرعياً بالقتل، عند الخروج عليه؟!. وعلينا ألا ننسى أن التنظيرات الفقهية التى أكدت فكرة طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه نبتت خلال فترة زمنية تخلّى فيها الحكم داخل الدولة الإسلامية عن فكرة «العدل» بعد مرحلة الخلافة الراشدة، وأصبح يدور فى فلك الاستبداد، بعد أن أصبح ملكاً عضوضاً (وراثياً) غشوماً. ولو أردت تلخيصاً لهذه الفكرة فيكفى أن نتذكر سوياً خطبة «يزيد بن المقنع العذرى» وهو يدشن لوراثة «يزيد بن معاوية» لملك أبيه، وكان من بين ما قاله فيها: هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه! وهناك شاهد آخر لا بد من الالتفات إليه فى هذا السياق يرتبط ب«المنافقين» الذين لم يخلُ الصف الإسلامى منهم حتى على عهد النبى، صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن المنافق هو الإنسان الذى يُظهر الطاعة ويُبطن الغضب على السلطة القائمة. وتوضح الآية الكريمة التالية من سورة «البقرة»: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» البقرة - الآية: 204. ورغم إدراك النبى لموقف المنافقين منه فإن التوجيه القرآنى له كان صريحاً فى عدم الدعوة إلى قتلهم أو قتالهم، بل دعا إلى عدم التعرّض لهم ومناقشتهم ومنابذتهم الحجة بالحجة، حين يتكشف مكرهم للإسلام «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً» النساء - الآية 63.