(1) كثيراً ما سمعنا وقرأنا هذه العبارة: «إنت عارف إنت بتكلم مين؟!»، تتردد على ألسنة أشخاص، استهجاناً واستنكاراً، لمن يقوم باعتراضهم أو توقيفهم أو مساءلتهم، بسبب مخالفتهم للقانون.. هؤلاء يعتبرون أنفسهم مواطنين من الدرجة الأولى الممتازة، أما الآخرون فهم فى نظرهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة.. هم طبقة عليا، تقبع على قمة التل، لا يجوز فى حقها، ما يجوز فى حق الآخرين القابعين عند السفح.. لذا، مرفوض عندهم -حال ارتكابهم جرائم- أن يؤاخذوا بما يؤاخذ به عموم الناس.. جاء فى الحديث: «إنما أهلك الأمم من قبلكم، كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد»، أو كما قال.. هو حديث مشهور، يحفظه ويعرفه القاصى والدانى.. لكن، المشكلة -كأغلب مشكلاتنا- ليست فى الحفظ والمعرفة، وإنما فى الاحترام والممارسة والتطبيق.. فمن منا يحترم القانون؟! ومن منا على استعداد -ابتداء- لأن يخضع لحكم القانون، بغض النظر إن كان فى صفه أو صف الآخرين؟! إن تطبيق القانون يجب أن يسرى على الجميع، دون استثناء، لا فرق فى ذلك بين إنسان وآخر.. هذا هو العدل الذى أمرنا به رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. إنه لا معنى ولا قيمة للقانون، عندما تضع فئة من الناس نفسها أو يضعها غيرها خارج مظلته.. وإذا فعل القوم ذلك، أو سمحوا به، أو سكتوا عليه، فالهلاك مصيرهم.. هكذا يقول الحبيب.. لكن، علية القوم دائماً فى جانب، وعوام الناس فى جانب آخر.. لماذا؟! لأن القانون لم يوضع للكبراء.. وهذه هى العلة.. أعلنها الحبيب المصطفى يوماً: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها».. لا فرق بين بنت النبى، وبنت واحد من عوام الناس.. هكذا يستقيم أمر المجتمع، عندما يخضع الجميع؛ الكبير والصغير، الغنى والفقير، الوزير والخفير، لشىء واحد فقط هو القانون، وأن القانون هو السيد المهاب.. (2) القانون يضعه نواب الشعب.. لذا من المهم أن يكون اختيار النواب سليماً، حتى يخرج القانون ملبياً بحق وصدق لحاجة المجتمع.. فى الواقع نحن لدينا غابة من القوانين، تحتاج إلى غربلة شديدة، فنقر ما هو مناسب لمتطلبات العصر، ونعدل ما يحتاج إلى تعديل، ونتخلص مما لم يعد ملائماً.. وتتضمن منظومة القانون والعدالة ثلاث حلقات رئيسة؛ الشرطة، والنيابة، والقضاء، ولكل حلقة من هذه الحلقات أهميتها ومهامها.. وتبدأ المنظومة من الشرطة، ثم النيابة، فالقضاء، ثم الشرطة مرة أخرى.. ويتكامل مع هذه المنظومة ثقافة المجتمع.. إذ نحن فى أمس الحاجة إلى ثقافة احترام القانون، ومن الضرورى أن نتعلمها ونتدرب عليها، ونمارسها.. وهذا دور البيت، والمدرسة، والمسجد، والكنيسة، ووزارات: التربية والتعليم، والثقافة، والإعلام، فضلاً عن مؤسسات المجتمع المدنى من أحزاب ونقابات وجمعيات.. إن القانون ليس نصاً فقط، لكنه روح.. وكما أنه واجب الاحترام، هو أيضاً واجب التطبيق.. فلا معنى لقانون لا يحترم، ولا قيمة لقانون لا يطبق.. أحياناً يحدث الخلل فى هذه المنظومة.. مثلاً، عندما تتقاعس الشرطة عن أداء واجبها فى جمع الأدلة، أو طمس معالمها، وكذلك عندما تتهاون فى تنفيذ أحكام القضاء.. وللأسف، نحن لدينا سجل حافل فى ذلك (!) لكن تبقى الحقيقة واضحة وهى أن مشروعية أى نظام حكم تتأسس على احترام سيادة القانون، وتنفيذ أحكام القضاء.. وعندما تعتدى مؤسسات الدولة على القانون، فإنها تمهد السبيل أمام المواطنين لاستباحته. (3) من قديم والكثير من الناس فى الصعيد يحملون السلاح.. وكان هذا دائماً وأبداً عنواناً لغيبة القانون، أو بمعنى أدق غيبة السلطة القادرة على فرض هيبة القانون.. قال لى أحد الضباط يوماً: نحن نعلم جيداً أن السلاح موجود بأيدى الأهالى، فوجود السلاح مع «عائلة»، وحرمان «عائلة» أخرى منه يخل بالتوازن، ويجعل الأولى تتغول على الثانية.. هو منطق، لكنه سقيم، فضلاً عن أنه مدمر، فيكفى أن تنطلق رصاصة -ولو طائشة- فتصيب شخصاً من هذه «العائلة»، فتسيل الدماء أنهاراً.. الأصل هو ألا يصل السلاح إلى الأهالى، اللهم إلا إذا كان مرخصاً.. لا يحمل السلاح إلا رجال السلطة المنوط بهم حماية القانون. ما حدث فى أسوان مأساة.. صحيح أنه يحدث فى أماكن أخرى، لكن ليس بهذه البشاعة، حيث لا يوجد شىء اسمه القانون.. القانون الحاكم هو السلاح.. وإذا تكلم السلاح، توارى العقل واختفت الحكمة.. يقال: «ومعظم النار من مستصغر الشرر».. لكن، هناك مناخ مهيأ، وبيئة خصبة لهذا الشرر.. لا أحد ينكر أن هناك احتقاناً عاماً، وظروفاً سيئة تمر بها مصر، كما أن هناك تقاليد وأعرافاً وثقافة لها خصوصيتها.. جميل أن يحدث تصالح بين «القبيلتين»، لتهدئة النفوس، وترطيب القلوب، وتسكين الجراح.. لكن يبقى التحقيق الشفاف والنزيه، فالقضاء العادل والناجز.. ثم تنفيذ الأحكام، دون تسويف أو إبطاء.. وقبل ذلك وبعده، سحب السلاح من «القبيلتين»، كمقدمة لحملة كبرى على مستوى مصر.. يقول المولى تعالى: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الحجرات: 9)..