لا تزال نتائج الزيارة التى قام بها الرئيس الأمريكى «أوباما» إلى المملكة العربية السعودية يومى 28 و29 مارس الماضى تحدث جدلاً فى الأوساط السياسية والشعبية، خاصة أن هذه الزيارة تختلف تماماً عن الزيارة التى قام بها «أوباما» إلى المملكة فى عام 2009، من حيث الشكل والمضمون. فقبل أن يقرر «أوباما» القيام بزيارته إلى الرياض تلقى ثلاثة تقارير من دوائر ال «سى آى إيه» ووزارة الخارجية والأمن القومى طالبته بتأجيل زيارته للمملكة العربية السعودية. وجاءت هذه النصيحة بعد أن توصلت هذه الجهات إلى قناعة مطلقة تشير إلى وجود مخاوف حقيقية من أن الزيارة قد لا تحقق الأهداف المرجوة منها، خاصة أن كافة المؤشرات تؤكد تراجع ثقة القيادة السعودية بالإدارة الأمريكية ومواقفها المتناقضة وتحالفاتها المريبة وانقلابها على ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة ما يتعلق منها بتيار الإسلام السياسى وتحديداً جماعة الإخوان وكذلك الحال بالنسبة للموقف الأمريكى من إيران تحديداً. كانت القيادة السعودية قد أبلغت واشنطن قبل ذلك بأن الأوضاع فى الخليج وتحديداً ملف العلاقة مع قطر، هى شأن داخلى يعالج داخل البيت الخليجى دون الحاجة إلى وساطة خارجية، وكان ذلك رداً على المعلومات التى وصلت إلى المملكة والتى أشارت إلى أن زيارة «أوباما» للرياض ربما تتعرض لمحاولة إيجاد أرضية للمصالحة بين قطر ودول الخليج. كانت الجهات الأمريكية الثلاث ترى أن الأوضاع غير مهيأة لزيارة «أوباما» للسعودية، خاصة بعد تجاهل الإدارة الأمريكية للمخاوف السعودية من تطورات الأوضاع فى مصر وسورياوإيران، عندما عُرض التقرير على الرئيس الأمريكى وقُدمت المبررات التى تطالب بالتأجيل، أصر «أوباما» على إتمام الزيارة فى موعدها، ظناً منه أنه قادر على تبديد الغيوم التى باتت تحلق فى سماء العلاقة بين البلدين. وقبيل أن يصل «أوباما» إلى الرياض فى الموعد المحدد كانت القيادة السعودية قد بعثت بأكثر من رسالة مسبقة إلى واشنطن. كانت الرسالة الأولى.. هى الموقف من تطورات الأوضاع فى مصر، وتأييد المملكة لثورة الشعب المصرى فى مواجهة حكم الإخوان، وفى هذا أبلغت الخارجية السعودية إدارة «أوباما» بأن الموقف السعودى من الأوضاع الجديدة فى مصر هو موقف مبدئى يتسق مع قناعات المملكة ورفضها لحكم «الإخوان» التى صنفتها بأنها جماعة إرهابية، وقال مسئولون سعوديون لمن فاتحهم من الإدارة الأمريكية فى هذا الأمر قبيل زيارة الرئيس «أوباما» كيف تسمح واشنطن لنفسها بأن تدعم طرفاً غير شرعى ويمارس العنف والإرهاب وتتجاهل إرادة الشعب المصرى، ثم تأتى لتلوم علينا الوقوف مع مصر قيادة وشعباً؟ وهو أمر ترى فيه السعودية تدعيماً لإرادة المصريين وحماية للأمن القومى العربى من مخاطر التهديدات التى تسعى إلى ضرب ثوابت الأمة وتغيير خريطتها السياسية والجغرافية. كانت الرسالة الثانية هى رسالة استباقية تمثلت فى سحب السفير السعودى من قطر، إلى جانب قيام دولتين أخريين بسحب سفيريهما وهما دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، وكانت الخطوة تعنى رسالة تقول إنكم إذا كنتم تراهنون على دور مهم قيادى أو مستقل لقطر فى دول الخليج فنحن سنتصدى بكل حسم وقوة لهذا المخطط. كان خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز ولا يزال على قناعة بأن الدور القطرى يجرى وفق سيناريو أمريكى متفق عليه مع قطر، وأن زيارة «أوباما» لم تكن تهدف كما يردد البعض إلى تأكيد الدور التاريخى للسعودية كزعيمة للخليج وإنما بهدف إنهاء الأزمة مع قطر، وفتح الطريق أمام المزيد من دعم الدور القطرى التآمرى على حساب دور المملكة والدول الأخرى، التى باتت مستهدفة من وراء هذا الدور. لقد سبق للإدارة الأمريكية أن طمأنت فى وقت سابق القيادة السعودية بأن ما شهدته قطر من تغييرات أخيرة فى نهاية يونيو من عام 2013 كان تلبية لطلب شخصى من الملك عبدالله بذهاب «الحمدين»، حمد بن خليفة آل ثان أمير قطر السابق، وحمد بن جاسم بن جبر آل ثان رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، إلا أن القيادة السعودية أدركت يقيناً أن هذه الرسالة لا صحة لها، بدليل أن ملفات السياسة القطرية ما زالت كما هى ودون أى تغيير فى عهد الأمير الجديد تميم بن حمد آل ثان، بل على العكس فإن القيادة القطرية الجديدة راحت تتدخل بشكل مباشر وعدائى فى الشئون الداخلية السعودية ودول الخليج الأخرى، وهو أمر أثار انزعاج القيادة السعودية التى رأت عن يقين أنه لا بد من وقفة حاسمة تعيد قطر إلى حجمها الحقيقى، وأن واشنطن يجب أن تدرك الرسالة ومعناها. وكانت الرسالة الثالثة التى وجهتها القيادة السعودية لإدارة «أوباما» تتعلق بالموقف من جماعة «الإخوان» الإرهابية. لقد أصدر خادم الحرمين الشريفين قراراً تاريخياً تم سريانه والعمل به فى التاسع من مارس الماضى، يعتبر أن جماعة الإخوان جماعة إرهابية محظورة، وكانت الرسالة السعودية تقول فى ذلك للأمريكيين إن حلفاءكم الجدد الذين تسخرونهم لإجراء تغييرات كبيرة فى المنطقة، خصوصاً فى دول الخليج هم أعداؤنا، ودعمهم يعنى الانقلاب علينا، وإننا قد فهمنا سياستكم فى المنطقة ولا داعى لمزيد من الخداع ومحاولة الاستغباء! لقد فوجئ الأمريكيون بالخطوة السعودية الجريئة خصوصاً أن هناك علاقة تاريخية كبيرة وقديمة تربط بين الإخوان والحكومات السعودية المتعاقبة، وهو على عكس ما كان يظن الأمريكيون من أن السعودية لا يمكنها أن تضحى بجسور التواصل بينها وبين الإخوان، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من تمويل الإخوان يتم من خلال جمعيات ومؤسسات سعودية تعمل تحت سمع وبصر القيادة السعودية. وكانت الرسالة الرابعة عشية زيارة «أوباما» للمملكة تتعلق بإعلان قرار تعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً لولى العهد السعودى. كان هذا هو الرد السعودى على الرسالة التى سبق أن نقلها وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى خلال زيارته إلى المملكة فى 5 يناير الماضى، والتى أكد فيها رغبة واشنطن بضرورة تجديد أدوات الحكم فى السعودية وإفساح الطريق أمام الجيل الثالث من أفراد العائلة السعودية ليكون لهم دور بارز بأسماء ومسميات واضحة. لقد كان للأمريكيين مخطط واضح فى هذا الأمر، وحاولوا التدخل فى الشئون الداخلية السعودية بطرح أسماء محددة لتحتل المشهد السياسى والأمنى فى الفترة المقبلة، غير أن القيادة السعودية كان لها رأى آخر، ولذلك فوجئت واشنطن بصدور مرسوم ملكى يقضى بتعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز كولى لولى العهد، بما يعنى الرفض المباشر للمخطط الأمريكى فى السعودية، لم تكن فقط رسالة هدفها الرد على محاولة التدخل الأمريكى بطرح أسماء معينة، وإنما كانت أيضاً تأكيداً على أنه لا خلاف داخل الأسرة السعودية، وأنه صدور مرسوم ملكى بتعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز الذى يتولى أيضاً منصب النائب الثانى لرئيس مجلس الوزراء إنما يعنى أن الأمور تمضى باتفاق، وأنه لا صحة لوجود صراع داخل الأسرة السعودية. وكانت الرسالة الخامسة الموجهة للأمريكيين، هى رفض الاقتراح الأمريكى بأن تترافق زيارة «أوباما» للمملكة بالدعوة إلى قمة خليجية لقادة دول الخليج مع «أوباما» فى الرياض بمن فيهم أمير قطر، إلا أن السعودية رفضت هذا الاقتراح وأبلغت واشنطن أن الوقت غير مناسب لعقد مثل هذه القمة، وأن هذه القمة بحاجة لفترة إعداد طويلة قبل عقدها، بما يضمن توفير سبل النجاح لها. تلك هى الرسائل الخمس التى بعثت بها المملكة إلى الإدارة الأمريكية قبيل زيارة «أوباما» للمملكة والتى لم تحقق النجاح الذى كانت تأمله واشنطن، سواء على صعيد ملفات إيران أو مصر أو سوريا، أو حتى على صعيد الوضع الداخلى السعودى والعلاقة مع قطر! كانت قضية تعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز كولى لولى العهد مثار تساؤلات عديدة داخل الأوساط الأمريكية قبيل وأثناء وبعد زيارة «أوباما». لقد فهم الأمريكيون أن تعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز ليس رسالة مقصورة عليهم، بل هى موجهة لأطراف أخرى أيضاً، لقد أوكل منذ فترة طويلة للأمير مقرن ملف العلاقات الإيرانية - الخليجية، خاصة العلاقات السعودية مع إيران. وقد زار الأمير مقرن سلطنة عمان فى شهر فبراير الماضى، والتقى السلطان قابوس بن سعيد ووزير خارجيته، حيث يمثلان القناة الخلفية والخفية فى ملف العلاقة بين السعودية وإيران. والأمير مقرن معروف بأنه صاحب نظرية، أنه إذا كان الأمريكان قد رفعوا الحظر عن طهران وبادروا بقنوات الاتصال معها، فالأولى بدول الخليج أن تبادر إلى ذلك بقنواتها الخاصة، ووفقاً لمصالحها بعيداً عن القنوات الأمريكية. وقد أبلغ الأمير مقرن العُمانيين فى تلك اللقاءات بأن مشاكل دول الخليج مع إيران يجب أن تبحث مباشرة بين الطرفين بعيداً عن القناة الأمريكية، وهو أمر أثار انزعاج واشنطن التى تسعى إلى أن تبقى هى صاحبة القرار فيما يخص علاقات دول الخليج مع إيران. وبعد الفشل الذى منيت به زيارة «أوباما» إلى السعودية لاحظت القيادة السعودية فور مغادرة الرئيس الأمريكى الرياض أن أعلن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد عن زيارة مفاجئة للأردن يلتقى خلالها الملك عبدالله الثانى لبحث أوضاع المنطقة. ويفسر المحللون الإعلان عن الزيارة فور مغادرة «أوباما» على أنه كان بمثابة ردة فعل أمريكية فورية على نتائج زيارة «أوباما» للسعودية. وإذا كانت زيارة أمير قطر إلى الأردن أثارت دهشة قادة المملكة العربية السعودية، فإن الملك عبدالله الثانى حرص على طمأنة السعوديين وإبلاغهم بنتائجها. وقد أجرى العاهل الأردنى اتصالاً هاتفياً بالأمير مقرن بن عبدالعزيز ليشرح له ظروف هذه الزيارة، مبدياً استعداده للعب دور الوسيط إن أمكن بين السعودية وقطر، إلا أن الأمير مقرن كان حاسماً بأن زيارة تميم لا تعنى السعودية من قريب أو بعيد، وإن كان قد أبدى بدبلوماسية احترامه للقرار الأردنى، وقال للملك إن السعودية لن تقبل أى وساطة مع قطر من أى طرف كان إلا بعد تحقيق ما تم الاتفاق عليه بين خادم الحرمين وأمير قطر فى 23 نوفمبر من العام الماضى فى قمة الرياض الثلاثية. وهكذا يبدو أن السعودية بات خيارها الوحيد هو فى التمسك بمواقفها المعلنة إزاء الملفات المختلفة، وهى المواقف التى تم إبلاغ «أوباما» بها خلال زيارته المؤخرة للمملكة العربية السعودية. لقد حذر خادم الحرمين الشريفين الرئيس «أوباما» من خطورة المواقف التى تتبناها الإدارة الأمريكية، خاصة دعمها لجماعة الإخوان الإرهابية والتحريض ضد مصر، وأكد له أن المشاكل التى تتعرض لها مصر ما كان لها أن تحدث لولا دعم واشنطن لجماعة الإخوان، ومنحها ملاذاً آمناً فى العديد من المناطق. وعندما طلب خادم الحرمين الشريفين من «أوباما» عدم الوقوف أمام خيار الشعب المصرى فى اختيار رئيسه كان رد «أوباما» بالإيجاب، إلا أن السعودية أدركت أنه طالما ظلت واشنطن تحتضن الإخوان وترفض اعتبارهم جماعة إرهابية، فسيبقى الموقف من القاهرة كما هو، وكذلك الحال بالنسبة للدول العربية الأخرى. أياً كان الأمر فإن إدارة «أوباما» أصبحت أمام أزمة حقيقية مع السعودية، وبعض دول الخليج الأخرى، خاصة بعد أن رفضت هذه البلدان مطلباً أمريكياً سابقاً بممارسة الضغوط على المشير عبدالفتاح السيسى حتى لا يرشح نفسه لانتخابات الرئاسة، ساعتها كان الرد السعودى والإماراتى تحديداً هذا حق الشعب المصرى ولا يستطيع أحد منا أن يتدخل فى الشئون الداخلية المصرية أو يمارس ضغطاً سياسياً أو اقتصادياً على مصر. بقى القول أخيراً إن سياسة «أوباما» فى المنطقة تشهد كل يوم فشلاً جديداً، وهو أمر تسبب فى المزيد من الأزمات داخل الإدارة الأمريكية ذاتها، خاصة بعد أن وصل الأمر بدول الخليج إلى توجيه رسائل حاسمة تنذر بصيف ساخن بين الجانبين.