رغم الفساد ومصادرة الحريات والاعتداء على القانون، فاز حزب العدالة والتنمية التركى بالأكثرية فى الانتخابات البلدية الأخيرة. لا يهمنى كثيراً ما يحدث فى تركيا إلا فى حدود ما يقدم من دروس تفيد حالتنا المصرية. ما يحدث فى تركيا يشير إلى أن حزباً إسلامياً حاكماً يستطيع أن يواصل الفوز فى الانتخابات رغم تورطه فى الفساد ومصادرة الحريات. نتائج الانتخابات المحلية فى تركيا تشير إلى أن الديمقراطية التى يتحدث عنها الإسلاميون لا تزيد كثيراً عن الانتخابات والصناديق، بينما تغيب عنها بقية المكونات الرئيسية للنظام الديمقراطى، التى بدونها تتحول الديمقراطية إلى ديكتاتورية الأكثرية. تركيا هى السجن الأكبر للصحفيين فى العالم. بنهاية عام 2013 بلغ عدد الصحفيين والكتاب الأتراك الصادر ضدهم عقوبات بالسجن فى قضايا الرأى 73 صحفياً وكاتباً، وهو ما يزيد عن عدد الستين صحفياً وكاتباً الذين تم حبسهم فى قضايا مشابهة فى العام السابق. تقارير لجنة حماية الصحفيين تشير إلى احتلال تركيا المرتبة الأولى عالميا فى حبس الصحفيين بعدد أربعين صحفياً، يليها فى المرتبة الثانية -وبعدد 35 صحفياً- إيران، وهو بلد آخر تحكمه حكومة إسلامية وفيه انتخابات وصناديق أيضاً. يستحيل الحديث عن الديمقراطية فى غياب حرية الصحافة، فالصحافة هى الوسيلة التى تتيح للمواطنين معرفة ما يفعله حكامهم، فيكون تصويت الناخبين يوم الاقتراع تصويتاً مبنياً على معرفة وتقييم دقيق للأشخاص والأحزاب. أعظم وأخطر ما فى الديمقراطية هو أنها تعطى أقل الناس شأناً وزناً مماثلاً لوزن أكثرهم علماً ونفوذاً فى اختيار الحاكم. الصحافة الحرة هى أداة التثقيف التى تتيح لأقل الناس علماً الإدلاء بصوت مبنى على المعرفة، وفى غيابها تتحول أصوات البسطاء إلى تصويت حشود جاهلة يتلاعب بها المتلاعبون. حرية التعبير هى ركن آخر من أركان الديمقراطية، وهى الوجه الآخر المتمم لحرية الصحافة. جوهر الديمقراطية هو التنافس بين آراء متعددة، فإذا لم يستطع أصحاب الآراء التعبير عنها انتفى التنافس وانتهت الديمقراطية. سيطر حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا على الصحافة، وسجن الصحفيين المارقين، فتحول الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعى. تحول «يوتيوب» إلى منبر لانتقاد رئيس الوزراء أردوغان وحزبه، وانتشرت عليه وثائق وتسجيلات فضيحة الفساد الكبرى التى لم تستطع الصحافة المرعوبة نشرها. لم يستطع أردوغان السيطرة على «يوتيوب» كما فعل مع الصحافة، فأصدر أمراً بإغلاقه. عندما تفجرت فضيحة الفساد الكبرى ضد أردوغان وأبنائه وقيادات حزبه قام أردوغان بعزل ونقل أكثر من ألف من ضباط الشرطة من وظائفهم، واستصدر قانوناً من البرلمان يتيح للحكومة التحكم فى اختيار القضاة والطريقة التى ينظرون بها القضايا المعروضة أمامهم. أضعف أردوغان دور المجلس الأعلى للنيابة والقضاء فى مقابل زيادة سلطة وزير العدل، فى انتهاك صارخ لمبدأ الفصل بين السلطات، الذى بدونه وبدون القضاء المستقل يصبح الحديث عن الديمقراطية مجرد لغو أجوف، وهى الديمقراطية التى يدعونا لها الإسلاميون، وحكومات فى أمريكا وأوروبا. أردوغان وحزبه يوجهون الطعنات لحرية الصحافة والتعبير ولحكم القانون، وما زالوا قادرين على الفوز فى الانتخابات. فى بلد ديمقراطى حقيقى لا يمكن للحاكم البقاء فى الحكم يوماً واحداً إذا ضبط متلبساً بالاعتداء على الحريات والقانون. الحرية هى القيمة العليا الحاكمة لدى القطاع الأوسع من الجمهور فى البلاد الديمقراطية فعلاً، والقانون هو أداة الناس لحماية الحرية، والاعتداء عليهما كفيل بنزع الشرعية والسقوط المدوى. غير أن الأمور لا تسير كذلك فى تركيا، وفى بلاد أخرى يصفونها زوراً بالديمقراطية. الناخب التركى لا ينشغل كثيراً بالحرية، ولا يزعجه تورط الحزب الحاكم فى تقييد الحريات والاعتداء على القانون. فالحزب الإسلامى الحاكم فى تركيا لديه كتلة صلبة من المؤيدين الذين يصوتون له على أساس عقيدى وأيديولوجى، وهى كتلة مستعدة لمواصلة تأييد الحزب الإسلامى فى مواجهة خصومه الأيديولوجيين مهما ساء أداؤه، حتى لو كان الثمن هو التضحية بمبادئ الحرية والديمقراطية، فهذه المبادئ فى النهاية ليس لها وزن لدى هؤلاء، فولاؤهم الأول والأخير للعقيدة والأيديولوجيا. إلى جانب هذه الكتلة الأيديولوجية المصمتة هناك قسم آخر من الناخبين الذين يحددون موقفهم من الحزب الحاكم فى تركيا بناء على أدائه فى المجال الاقتصادى، فطالما كانت معدلات النمو مرتفعة، ومستويات المعيشة تتحسن، واصل هذا القسم من الناخبين تأييد الحزب الحاكم، حتى لو على حساب الحرية والديمقراطية. شروط الصفقة لدى هذا القسم من الناخبين بسيطة: الخبز مقابل الحرية، وهى الصفقة نفسها التى قامت عليها كل النظم السلطوية، فإذا وجدناها سارية المفعول فى بلد يدعى الديمقراطية فعلينا أن نرفع راية الشك فى الديمقراطية المزعومة. هذا هو بالضبط ما كان ليحدث لدينا لو ابتلعنا خديعة ديمقراطية الإخوان. فللإخوان كتلة مصمتة من المؤيدين تتكون من أعضاء الجماعة وأنصارها، وهى الكتلة التى كانت ستواصل التصويت للجماعة حتى لو قادت البلاد إلى الجحيم. وإلى جانب هؤلاء هناك الجماهير المتدينة التى طالما خدعتها مظاهر التدين الإخوانى، وطالما أفزعها الإسلاميون من التصويت لآخرين احترف الإسلاميون تكفيرهم والطعن فى إسلامهم. أما الكتلة المستعدة لعقد صفقة الخبز مقابل الحرية فهى كبيرة جداً فى بلد يعيش الأكثرية من أهله حول خط الفقر. فلو كان الإخوان تمكنوا من حكم البلاد لفترة أطول لكنا دخلنا فى مرحلة الديكتاتورية الإخوانية المدعومة بالصناديق والانتخابات، ولكان الغرب المدافع عن الديمقراطية ليكتفى بالمشاهدة ولسان حاله يقول إذا كان هذا هو ما تنتجه الصناديق عندكم، فليكن.