رئيس جامعة المنيا يشهد ختام فعاليات المُلتقى السنوي الخامس للمراكز الجامعية للتطوير المهني    الحكومة: استمرار الدعم يهدد الاحتياجات الأساسية.. ولن نترك المواطن يواجه الغلاء وحيدًا    وزير المالية: تنمية الموارد وترشيد الإنفاق عنصران أساسيان لتكون الموارد بقدر المصروفات    تفاصيل سعر جرام الذهب عيار 21 في ختام التعاملات اليوم    خادم الحرمين الشريفين وولي عهده يعزيان في ضحايا الانزلاق الترابي الذي وقع في قرية إنغا    خلال زيارة بوتين.. روسيا وأوزبكستان توقعان 20 وثيقة لتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية    جوتيريش: لا مكان آمن في غزة ويجب وضع حد للفظائع    سنتكوم: قواتنا دمرت مسيرة حوثية فوق البحر الأحمر    اليابان تدعو لتوخى الحذر بعد أنباء عن إطلاق كوريا الشمالية صاروخ    سبيس إكس تخطط لإجراء الاختبار الرابع لصاروخها العملاق ستارشيب    أحمد ناجي قمحة: الصدامات بالداخل الإسرائيلي سبب تصاعد العمليات العسكرية بغزة    دبلوماسي سابق: الولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل تؤيد حل الدولتين    والد ياسين حافظ: نجلي سيرحل عن الزمالك..وأيادي خفية منعت انضمامه للمنتخب    عاجل.. حمدي فتحي يحسم موقفه من العودة إلى الأهلي    شوبير: كولر أبلغني أنني سأكون الحارس الأول إذا انضم أبو جبل    إبراهيم حسن: منتخب مصر للجميع..وهدفنا التأهل لكأس العالم    موسيماني يهبط بفريق أبها السعودي إلى دوري يلو في الموسم القادم    استعدادات عيد الأضحى 2024: عد الأيام والتحضيرات المبكرة    ننشر أسماء ضحايا حادث حريق مخزن ملابس رياضية ومواد بلاستيكية في الدقهلية    تعرف على موعد عيد الأضحى في الدول الإسلامية    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية المتنقل ‫    حظك اليوم برج الدلو الثلاثاء 28-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج الحوت الثلاثاء 28-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    محمد ممدوح يعود للكوميديا بفيلمي «إكس مراتي» و«روكي الغلابة»    فوائد صحية مذهلة لبذور قرع العسل.. «مترميهاش»    محامي رمضان صبحي: نأمل حل أزمته سريعا ولحاقه بمعسكر منتخب مصر    المندوه: الزمالك حصل على جزء من مكافأة الفوز بالكونفدرالية.. ونحاول حل أزمة القيد    بدر حامد يكشف ل «أهل مصر» مصير ناشئي الزمالك بعد إلغاء مسابقة 2003    اتصالات النواب ينصح المستخدمين: الروابط المجهولة تخترق الصفحات الشخصية    توقعات بانخفاض درجات الحرارة اليوم بالقاهرة والمحافظات    أخبار 24 ساعة.. وزير الأوقاف: إجمالى المساجد المجددة منذ تولى الرئيس السيسي 12 ألفا    مصادر: ستيلانتس تعتزم إنتاج سيارتين جديدتين في إيطاليا    برلماني: الحوار الوطني يعود في توقيت دقيق لحشد الجهود لحماية الأمن القومي    حازوا شماريخ.. قرار قضائي بشأن 39 مشجعًا أهلاويًا في نهائي إفريقيا    وزير التعليم يشهد فعاليات الحفل الختامي للدورة الثامنة بمسابقة "تحدي القراءة العربي".. ويكرم الفائزين    إعلام عبرى: سقوط قذيفة صاروخية بمنطقة مفتوحة فى مستوطنة ناحل عوز بغلاف غزة    سيمون تحيي ذكرى ميلاد فاتن حمامة: كل سنة وسيدة الشاشات خالدة في القلوب    أخبار مصر اليوم: استشهاد أحد العناصر المكلفة بالتأمين على الشريط الحدوي.. وموعد إعلان نتائج الشهادة الإعدادية 2024 بالقاهرة والجيزة    في مؤتمر صحفي.. كشف ملامح خطة عمل مركز الأورام في كفر الشيخ    مدير الصحة العالمية: اعتمدنا 120 دواء ولقاحًا للإيدز والسل والملاريا فى 2023    سيد علي يسخر من ظهور ياسمين صبري على السجادة الحمراء بمهرجان كان: محدش يعرفها غير المصور بتاعها    تعرف على فضل وحكم صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    جامعة دمنهور تشارك في فعاليات الملتقى السنوي للمراكز الجامعية للتطوير المهني    الانتهاء من 16 مشروعًا بنسبة 100% ضمن حياة كريمة في إدفو بأسوان    فرص للطلاب الفلسطينيين في الجامعات المصرية    طريقة عمل دقة الكشري بخطوات بسيطة وزي المحلات    «التعليم»: مشاركة 31 ألف طالب من ذوي الهمم بمسابقة «تحدي القراءة العربى»    محافظ المنيا يعتمد إحداثيات المبانى القريبة من الأحوزة تيسيرا لإجراءات التصالح    الأسهم الأوروبية تغلق على ارتفاع وسط ترقب مسار أسعار الفائدة    بُمشاركة أطراف الإنتاج الثلاثة.. الحوار الاجتماعي يناقش مشروع قانون العمل وتحديات السوق    هل يجوز تعجيل الولادة من أجل السفر لأداء الحج؟.. أمينة الفتوى بدار الإفتاء تجيب    الإفتاء: الفقهاء وافقوا على تأخير الدورة الشهرية للصيام والحج    محافظ بني سويف يشهد احتفالية لتجهيز 26 عروسًا من الفئات الأولى بالرعاية    أحكام العمرة وفضلها وشروطها.. 5 معلومات مهمة يوضحها علي جمعة    بعد حبسه.. القصة الكاملة في محاكمة أحمد الطنطاوي في قضية تزوير توكيلات    في عامه ال 19.. المدير التنفيذي لبنك الطعام: صك الأضحية باب فرحة الملايين    «الشيوخ» يناقش سياسة الحكومة بشأن حفظ مال الوقف وتنميته    «الداخلية»: تنظيم حملة للتبرع بالدم بقطاع الأمن المركزي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عاش في صندوق31 عاما.. خالد: كان بيتي وبحس فيه بالأمان
نشر في الوطن يوم 04 - 01 - 2020

هل قادتك ظروفك يوماً إلى أن تقضى ليلتك بعيداً عن أهلك.. وأن تبحث عن مكان ل«المبيت» فيه.. ربما نمت فى مسجد.. أو ظللت جالساً فى محطة قطار.. هل فعلتها يوماً.. أم أنك لم تعش هذه التجربة.. هل جربت أن تعيش هذه الظروف يوماً.. أسبوعاً.. سنة؟.. نعم سنة كثيرة جداً.. ومن هذا الذى يستطيع أن يعيش هذه التجربة سنة.. ما بالك إذاً بمن عاشها سنة.. وعشراً.. وعشرين.. وثلاثين سنة. نعم.. عاش 31 سنة فى الشارع، وتحديداً فى صندوق حديدى بوسط القاهرة.. عند سنترال باب اللوق.. صندوق حديدى ب«قفل» هو حياته وأمانه و«ونيسه».. يدخل به ويطلب من أحدهم أن يغلق باب هذا الصندوق ب« قفل حديدى».. وفى الصباح ينتظر من يفتح له.. ها هو على مدار تلك السنوات.. يطارد الخوف ويطرده.. يداهمه الجوع ساعات.. يقاوم البرد فى ليلة شتوية طويلة بحرق أوراق أو بقايا خشب محطم.. وقد يسقط المطر.. ولا تحترق أبداً تلك الأوراق ولا تعطى «الدفء». حديثنا اليوم.. وحوارنا مع «خالد».. هذا الشاب الذى أعلنت وزارة التضامن الثلاثاء الماضى أنها نقلته إلى دار «أم كلثوم» لرعاية المشردين.. الوزارة، وعبر خطها الساخن، توصلت إلى الشاب ابن ال46 عاماً داخل صندوق حديدى.. يعيش فيه منذ 31 عاماً.. هكذا أعلنها الدكتور محمد العقبى المستشار الإعلامى للوزارة.
أم كلثوم تستقبلك
أقيم الآن فى دار "أم كلثوم" لرعاية المسنين والمشردين.. مساحتها 4 آلاف متر.. بعد ما تواصلت مع وزارة التضامن الاجتماعى ونقلتنى إلى هنا لأعيش حياة جديدة بعيداً عن قسوة السنوات الماضية
فى العام 1973 كانت أم كلثوم قد جاوزت السبعين عاماً.. كانت السيدة محبة لوطنها وللخير.. بحثت عن قطعة أرض تبنى فيها جمعية خيرية تستقبل المسنين والمشردين وتؤويهم.. اختارت 5 أفدنة فى منطقة حلوان جنوبى العاصمة.. هذه المساحة تتجاوز 20 ألف متر.. مخصص بها 4 آلاف متر كدار للرعاية.. على بُعد دقائق من كورنيش النيل العظيم.. كانت البداية لهذا المكان «الجمعية الوطنية لتنمية المرأة والمجتمع».. عندما تم تدشين هذه الدار كان بطل قصتنا لم يأتِ للحياة بعد.. فهو مواليد 11 يوليو 1974.. ورحلت مؤسستها والمتبرعة بها عن عالمنا فى فبراير 1975.. وبقيت الدار مفتوحة حتى الآن.. تعمل تحت مظلة وزارة التضامن.. على بابها الرئيسى تجد صورتين كبيرتين لأم كلثوم وهى تمسك «منديلها» الشهير فى إحدى حفلاتها.. تدخل من الباب الحديدى لتجد بهواً كبيراً.. يضم عدداً من صور كوكب الشرق.. هذه بين الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر والسادات.. وهنا ترحب بأحد الضيوف من رؤساء الدول العربية.. وهناك صورة كبيرة لها مع الصحفى الشهير «محمد التابعى».. وعلى جدران فى نفس البهو.. تجد مجموعة كبيرة متراصة من الصور لها وهى فى مراحل مختلفة من عمرها.. هنا «صبية» فى العشرينات.. وهنا فى مقتبل الأربعينات.. وهنا ب«نظارتها» الشهيرة.. وهنا ب«وقفتها» العظيمة على المسرح.. ترفع يديها «طرباً» وتناغماً مع لحن من ألحان الشيخ زكريا أحمد أو رياض السنباطى.. تتجاوز هذا البهو وأنت تلتفت يميناً ويساراً من فرط الإعجاب.. وفى هذه اللحظات يظهر الشاب خالد.. خالد الذى عاش 31 عاماً فى صندوق حديدى، والآن يعيش فى دار أنشئت وعمره عام واحد وهو الآن ابن 46 عاماً ويجلس فى غرفة مع أحد المسنين.. يجلس فى «حضرة أم كلثوم».. هذه الغائبة الحاضرة.
"قول للزمان ارجع يا زمان"
بخطوات عادية.. لا هى متثاقلة.. ولا خفيفة.. يتحرك «خالد» إلى جوارك.. ابتسامته حاضرة.. ودموعه أيضاً تظهر فى عينيه.. بينما يرتدى ملابس نظيفة.. يتحرك وإلى جواره المدير: «ها مبسوط يا خالد».. يرد الشاب: آه.. بس عايز أخرج أغير «شريحة الموبايل».. عايز أكلم الناس بره.. ليا صحاب.. عايز أطلع.. المدير يرد بهدوء: بكرة أو بعده وانت رايح عيادة الأذن.. هات اللى انت عايزه.. يضحك خالد وهو يتمم: «أنا معايا فى جيبى 5 جنيه.. تجيب إيه!.. بس حلوة الشريحة هغيّرها بخمسة جنيه.. وانا معايا بطاقتى.. محدش هيتكلم معايا».. جلست مع «خالد» فى غرفة تزينها صور أم كلثوم.. سألته: انت عارف اسم الدار إيه.. طبعاً.. دار «الست».. أم كلثوم. تظهر ابتسامته من جديد: «ومين مايعرفش الست».. سألته مجدداً: هل تسمع لها أو تحفظ بعض الأغانى؟.. صمت قليلاً.. حاولت أن أساعده.. «حب إيه.. الحب كله.. انت عمرى.. أغداً ألقاك».. قال: باحب وباسمع وحافظ أغنية واحدة.. أو قول فاكرها بس.. بتغنى فيها: «وعايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان».. قالها وضحك.. لا أعرف هل تذكّر سنواته الماضية أم كيف عاش فى الشارع أم كيف ترك منزل أسرته وغاب عنها للأبد.
هنا قحافة.. هنا الفيوم
تركت شقيقتى فى "اللفة" عند رحيلى من الفيوم وعدت من شهرين.. وجدتى قالت لى: "حرقت نفسها.. ماقدرتش تتحمل مِرات أبوها"
خالد يعود بك إلى سنواته الأولى.. يرجع بك ب«الزمان» إلى الثمانينات، حيث كان عمره يجاوز السنوات العشر.. هذا هو.. وهنا شقيقه الذى يصغره بسنوات قليلة.. وهذه شقيقته الطفلة فى «اللفة» كما ذكر لى.. أمه ليست هنا.. تركتهم.. سافرت إلى ليبيا وتزوجت هناك بعد الطلاق من أبيه.. هذا الأب الذى لم يتردد لحظة فى أن يتزوج.. وكان خالد هو الضحية.. ربما لعنف من والده، أو لقسوة من هذه السيدة التى احتلت مكان أمه.. لم يدخل خالد المدرسة أبداً.. ربما لحاجة فى نفس الأب.. انتقم مثلاً من زوجته الغاضبة بعقاب أبنائها.. خالد تمرد مبكراً.. وبدأ يغيب عن المنزل.. وعند كل عودة يجد العقاب.. ضرب وتعذيب وتوثيق.. وعيون لا ترحم.. ولكن تحرّض.. لم ينل حظه من التعليم.. ولكن يمتلك ذاكرة عجيبة.. وعيناً مثل «الكاميرا» تسجل الأرقام.. يحفظ التواريخ.. والأرقام.. عليك فقط أن تُظهرها له مرة واحدة.. يقول: «أنا عندى تليفون.. تليفون حديث.. بس مش مسجل فيه ولا رقم.. ماعرفش أسجل بالأسماء.. أعرف ده رقم مين.. بمجرد ما أبص على الرقم.. وناس كتير بتستغرب... وحتى لما كنت أتصل بحد.. أبحث بنفس الطريقة.. أنظر إلى الرقم.. فأتذكر مَن صاحبه وأتصل».
"خالد" ابن "الفيوم" ترك أسرته وعاش فى شوارع "وسط البلد" بعد طلاق والدته وزواجها فى ليبيا وارتباط والده بأخرى
خالد يعود بك إلى الفيوم.. وتحديداً إلى محطة القطار.. ومنها كانت الانطلاقة.. كان ابن 15 عاماً عندما سأل رجلاً واقفاً عند باب المحطة: القطر ده بيروح فين.. رد الرجل دون أن يلتفت إليه: رايح مصر.. يقصد محطة رمسيس فى القاهرة أو محطة الجيزة.. والمسافة ليست بعيدة بين الفيوم وأى من المحافظتين.. قد تتجاوز 100 كيلومتر بقليل.. يقطعها القطار العادى فى ساعة ونصف أو ساعتين على أقصى تقدير.. وهنا قرر «خالد» أن يترك الفيوم بمن فيها.. ترك والده.. شقيقه الأصغر.. شقيقته.. زوجة الأب.. أقاربه.. لم يكن فى «جيبه» أى نقود.. وعليه صعد مثل بعض الشباب فوق القطار.. أو كما يقولون: «إحنا هنسطح فوق القطر لحد مصر.. ومحدش هياخد مننا فلوس». صعد الصبى فوق سطح القطار.. وصل القطار إلى محطة.. عرف بعدها خالد أنها «الجيزة».. وجد مَن حوله ينزلون.. هبط بسرعة.. وخرج مسرعاً إلى الشارع.. وجد أوتوبيساً.. ركب الأوتوبيس بعد أن وجد العشرات قبله يركبون.. كان قصيراً ونحيفاً.. وتاه وسط الزحام ولم يسأله أحد: «تذكرتك فين؟».. وصل إلى ميدان رمسيس.. وهو الأشهر فى مصر والأكثر زحاماً ب«ضيوفه» المارين فيه.. وب«بائعيه» وبسياراته.. وبالوافدين من أقاصى الصعيد وأطراف الدلتا.. وتاه خالد بين كل هذا الزحام واستقر وبات ليلته ب« الطول والعرض».
عم حافظ.. وسيطرة وسط البلد
كانت الأيام الأولى صعبة وقاسية.. لا يعرف كيف يأكل، ولا أين ينام، ولا كيف يتعامل مع «أهل القاهرة».. بلهجته هذه، وقلة خبرته، واستهزاء البعض به؟.. لكنه قرر أن يستمر ويبقى ويتحايل على الظروف والأمكنة والبشر.. عندما يحتاج إلى نظافة يذهب إلى أقرب مسجد.. مرة يصلى.. ومرات يكتفى بقضاء حاجته.. مع مرور الأيام.. تعلم كيف يصل إلى «القرش والجنيه».. تعلم أن يمسح السيارات فى الإشارات والجراجات وأمام العمارات المنتشرة فى وسط العاصمة.. مرت الأيام وزادت خبرات «خالد» فى التعامل مع الناس ومع الظروف.. وقادته خطواته يوماً إلى شارع محمد محمود.. هناك التقى رجلاً قارب الستين.. هو «عم حافظ».. و«حافظ» واحد من باعة الصحف، وربما الوحيد فى هذا الشارع.. يقف بثبات على «فرشته» بجوار سنترال باب اللوق القريب من مبنى وزارة الداخلية، ومن «بريق» وسط القاهرة وشوارعها ومصالحها الحكومية.. مرة لمح «خالد» وهو ينظف سيارة متوقفة.. سأله: «بتعرف تسوق عجل؟».. رد الشاب.. يعنى.. قاله تروح الأهرام.. هتجيب «جرايد» من هناك.. هتلاقى عربية واقفة.. هتقول لهم عايز حاجة عم حافظ.. ركز فى الطريق.. واوعى تعمل مشاكل.. عاد «خالد» إلى عم حافظ والصحف مربوطة بأحكام.. وأعطاه الرجل جنيهات قليلة كانت «ثروة» ورقماً كبيراً بالنسبة له.
النوم فى الصندوق الحديد
وجد «خالد» ضالته.. هنا تعامل محترم.. هنا صوت هادئ.. لا يوجد هنا عنف مثل عنف والده، ولا نظرة قاسية مثل تلك التى بقيت فى ذاكرته من عينى زوجة أبيه.. هنا وجد المأوى.. هنا البيت.. هنا أب جديد.. أب لا يضرب ولا يقسو ولا يعنف.. بل يحتضن ويعطى أموالاً.. كانت صحة الرجل متواضعة.. ويعيش بأمراض فى القلب.. وجد ضالته فى هذا الشاب المطيع.. الذى يسمع الكلام دون لف أو دوران.. «خالد» لا يشتبك مع أحد.. كانت الأزمة هى أين ينام خالد؟.. وكيف ينام؟.. فى الصيف لم تكن المشكلة تظهر.. كانت عادية.. ينام بجوار «الفرش» ويضع «ربطة» الصحف تحت رأسه، أو يطبّق بقايا «كرتونة» وينام.. لكن مع دخول الشتاء اختلف الوضع.. قديماً كان ينام أسفل الكبارى أو عند باب مسجد.. أو مكان مهجور فى رمسيس.. بجوار عم حافظ.. كان هناك صندوق حديدى بجوار سنترال باب اللوق.. تخيله خالد بيتاً.. طلب من عم حافظ بطانية.. فأحضر له الرجل اثنتين.. واقترب «خالد» من الصندوق.. عاينه.. هنا فتحة.. تضمن لى دخول الهواء.. من هنا يمكننى الدخول.. طوله يصل إلى متر و10 سنتيمترات أو أكثر.. وضع الشاب كراتين فوق الصندوق.. ودخل بقدميه.. الصندوق لا يكفيه.. ضم قدميه ناحية صدره.. عرف مقاسات الصندوق.. طوله.. عرضه.. ارتفاعه.. كان الصندوق يومها مفتوحاً.. وقرر أن ينام هنا ويجعل منه بيتاً.. لكن «عم حافظ» يضحك وهو يتابع ما يفعله «خالد»: «إيه يا ابنى.. بتعمل إيه.. وداخل طالع فى الصندوق وبتحط بطاطين.. وترص كراتين.. وتقيس.. يا ابنى ده مش بتاعنا.. ده بتاع السنترال.. بتاع الحكومة.. والمفتاح معاهم».. خالد لا يبالى.. أنا خلاص هانام هنا يا عم حافظ.. ويضحك.. ويبتسم الرجل وهو يقول: «هنشوف».
مفتاح الصندوق
استقر بجوار بائع صحف فى قلب العاصمة واختار صندوقاً فى سنترال باب اللوق مكاناً للنوم و"القفل والمفتاح" فى حوزة فرد أمن
فى منتصف الشارع.. يجلس حافظ.. وخالد يعود بالدراجة محملاً بالصحف.. هذه يومية وهذه أسبوعية وتلك مجلات أسبوعية وشهرية.. يضعها خالد ويرصها ويهرول إلى الصندوق.. يجده مقفولاً ب«قفل».. يجلس إلى جوار عم حافظ.. ويشاور بيده.. مين قفله.. يرد الرجل بهدوء.. مش قلت لك يا ابنى ده بتاع الحكومة.. بص، فيه موظف أمن فى السنترال طيب.. روح له فى نهاية اليوم.. هو معاه مفتاح الصندوق.. «عهدة».. قل له، ممكن يسمح لك.. ويخليك تنام فى الصندوق.. انتظر خالد لنهاية اليوم.. وذهب إلى فرد الأمن: أنا خالد.. أخبارك إيه.. أنا شغال مع عم حافظ.. يرد الموظف: عارفك وباشوفك من زمان.. يتابع خالد: أنا بس مش لاقى مكان أبات فيه.. أنا هانام فى الصندوق اللى بره.. اقفل عليا بس وسيبنى.. المفتاح عهدة.. خليه معاك.. وبعد تفكير طويل.. يوافق فرد الأمن.. ويسمح لخالد بالمبيت.. يفرش خالد «بطانيته» بطول الصندوق.. وينام فيه بعد أن يضع قدميه قرب صدره.. المكان لا يتسع ولا يسمح له أن «يفرد» قدميه كاملتين.. ولكن مع هذه الظروف وجد خالد ضالته.. ظل صندوق ولا ملاحقات ومطاردة الشوارع.. تحول هذا الصندوق إلى بيت.. فيه خالد يضع ملابسه القليلة.. ويضع بطاقته الشخصية وجنيهاته المتواضعة.. فى الصندوق مكان للتنفس.. فتحة تسمح بدخول الهواء.. وعند كل مساء.. يدخل خالد إلى الصندوق ويضع يده تحت رأسه.. ويطلب من موظف الأمن أن يغلق الباب عليه ب«القفل» من الخارج.. سألت خالد: ماذا لو أن الموظف غاب.. عطله شىء.. دخل مستشفى.. أو حدث له مكروه.. ضحك «خالد» وقال: كنت عامل حسابى.. وكل العمال هناك أصحابى.. والمفتاح مكانه فى السنترال.. أى حد منهم ييجى الصبح.. بعد ما يفتح السنترال.. يقول لنفسه.. نفتح لخالد.. يعنى أنا والسنترال واحد.. ناس كتير شايفة الصندوق الحديدى ده ضيق وزى القبر.. إلا أنا.. شايفه «براااح».. وشايفه بيت وعيلة وأمان. وكنت مرتاح فيه.. أحسن من سنين الشقا.. وقعدت سنين فيه.. فى الشتا كنت باقفله.. أسد المنافذ علشان البرد.. تعرف من تعاملى مع العمال فى السنترال. كان فيه ثقة كبيرة بينا.. وسابوا لى المفتاح.. آه والله.. مفتاح الصندوق معايا فى جيبى هنا.. جيت لما أخدونى من كام يوم ونقلونى هنا.. «خبيت» المفتاح وخليته معايا.. ده بالنسبة لى مفتاح الحياة ومفتاح بيتى كمان.
عم حافظ.. راح لربنا
قابل عم حافظ بياع الجرايد واعتبره والده.. وشعر أن حياته انتهت بعد موت الرجل سنة 97.. وعمل مع ابنه الأكبر حتى رحيله فى مارس الماضى
أنا فاكر التاريخ بالظبط 14/ 2/ 1997.. عم حافظ مات. كنت هاموت لما عرفت.. تعب.. كان وقتها فى السبعين.. ومات.. افتكرت أول مرة قابلته.. وإزاى تعامل معايا.. وكان أبويا الحقيقى.. والفلوس اللى كان بيقدمها لى مقابل شغلى معاه.. كنت خايف أمشى.. لكن ولاده كانوا جدعان.. حسام.. ابن الحاج حافظ كمل المسيرة.. بس حسام كان مريض برضه ب«القلب».. ماعرفش ده وراثة ولا إيه.. ويوم 13/ 3/ 2019.. حسام مات.. كان فى سن 55.. بكيت عليه كتير.. هو اللى شالنى بعد الحاج ما مات.. وفاكر يومها رُحت معاهم وصليت الجنازة فى السيدة نفيسة.. بس ماكملتش.. ورجعت وأنا خايف.. أنا فاكر التواريخ كويس.. مش حافظ أسماء الشهور.. بس حافظ الأرقام وماقدرش أنساها.. خالد لا يقول لك 14 فبراير.. لكن يقول لك 14/ 2/ 1997.. وهكذا.. وهبه الله قدرة على حفظ الأرقام والتواريخ.. لم تعوضه كثيراً عن حرمانه من القراءة والكتابة.. لكن شطارته فى الأرقام والحساب كانت من مميزاته.. استقر به الحال بجوار كشك الصحافة.. الأمر مستمر.. والصندوق كما هو لا يتغير.. لكن فقد الكثير من المميزات السابقة.. كان فى البداية بجوار عم حافظ.. ورحل الرجل منذ 22 عاماً.. واستمر بجوار ابنه.. لكنه رحل منذ شهور وضاقت الدنيا بخالد.. ولم يصبح للمكان قيمة أو ثمن مثل التى كان عليها من قبل.. منذ شهرين.. توجه إلى الفيوم.. التقى جدته لأمه.. هناك سأل عن شقيقته «حنان»، التى تركها فى «اللفة» يوم أن ركب القطار.. كانت زيارته الأولى لهم بعد كل هذه السنوات.. كان يكره أيامه وماضيه ووالده.. ووالدته.. قالت له «الجدة».. حنان ماتت.. حرقت نفسها يا ولدى وماتت.. انت ما تحملت أبوك ولا مراته.. وهى تحملت لحد ما وصلت سن 18.. وماتت ييجى من 20 سنة.. لم يترك خالد جدته تسترسل وتكمل.. لم يسأل عن والدته.. هل عادت من ليبيا.. هل ماتت هناك هى وزوجها الثانى؟.. لم يسأل.. هل مات والده؟.. هو لا يعرف وجه والدته.. ولا يتذكر تفاصيل هذا الوجه.. ولا يريد فى الوقت نفسه أن يتذكر وجه أبيه.. تداهم ذاكرته فقط قسوته وضربه.. وفى الذاكرة تظهر بوضوح صورة عم حافظ.
الاتصال بخط النجدة
دخل دار الرعاية من أسبوعين ويعيش حياة مختلفة وسط رعاية صحية واهتمام كبير من العاملين
خالد فى الصندوق.. هو بيته.. داخله باستمرار.. ويتابع عمله فى الكشك.. لكنه لا يطيق البقاء بعد رحيل عم حافظ.. ورحيل حسام ابنه.. وفوجئ بشخص يقترب منه.. بص يا ابنى، خُد الرقم ده واتصل بالرقم المختصر.. هتلاقى ناس بترد عليك.. قل لهم على مكانك.. علشان ينقلوك مكان تنام وتبات فيه وتلاقى لقمة نضيفة.. فعلها خالد.. وجاءت لجنة من وزارة التضامن.. وقفوا بسيارتهم.. لكنه رفض أن يذهب معهم.. مر شهر والفكرة تراوده.. مكان للمبيت.. وأكل وشرب وخروج للعمل.. الوضع سيختلف.. سأترك هذا الصندوق.. جدّد الاتصال بهم مرة ثانية.. حضروا.. ترك بطانيته.. وحمل فقط المفتاح.. مفتاح الصندوق.. ووضعه بجوار بطاقته.. هو تاريخ بالنسبة له.. مثل بطاقته الشخصية.. التى تحمل عنوان سكن غريب.. ليس فى الفيوم حيث المولد.. ولكن 17 شارع محمد محمود.. ولا أعرف كيف وضعوا له فى بطاقته الشخصية هذا العنوان.. رغم أنه ليس من سكان وسط القاهرة.. وليس لأى حد فرصة أن يبقى اسمه محفوراً فى بطاقة هوية وبجواره العنوان.. 17 محمد محمود.. المهم أن خالد تحرك إلى الدار.. المسافة ليست طويلة بين الصندوق فى شارع محمد محمود والدار.. 23 كيلومتراً فقط.. وقرابة ساعة سير بالسيارة، إذا كان الطريق خالياً من التوقف والزحام.. وساعة ونصف أو أكثر إذا كان غير ذلك.. وصل خالد إلى الدار.. هنا غرفة.. وهنا سرير لم يره خالد فى حياته إلا فى مرات قليلة زار فيها منزل عم حافظ.. وهنا طعام بموعد.. وهنا نظافة.. لكن هنا «لا خروج».. هنا ممنوع المغادرة إلا بإذن.. هنا ناس طيبة، ولكن «الأوامر» زيادة.
المفتاح معايا.. وهارجع للصندوق
أحتفظ ب"مفتاح الصندوق" لأنى هارجع له قريب واتعودت على "النومة" دى.. وحبيت أكل "وسط البلد" والحياة فيها والناس اللى كنت عايش معاهم
«خالد» لا يمكنه الخروج من دار أم كلثوم.. يسأل نفسه.. ما هذا المكان الغريب؟.. نعم هو مكان رائع.. صور أم كلثوم تزينه.. تاريخها حاضر.. والناس هنا طيبون.. والتعامل يذكرنى بعم حافظ وحسام رحمهما الله.. لكنه أضيق بكثير من الصندوق الحديدى.. فى الصندوق كنت أذهب إليه عند النوم فقط.. أذهب إليه «طواعية» وأنام، ويغلقون عليا ب«القفل» فى صمت دون أوامر.. وفى الصباح يفتحونه.. وأغادر الصندوق.. وأعمل.. وأحصل على يومية.. وأتجول فى وسط القاهرة.. أتناول «كشرى».. أو رز وخضار.. وأجلس على المقهى.. وأعود إلى الصندوق مرة أخرى.. لأنام.. هنا طعام نظيف ومكان نظيف، لكننى لا أريده.. أريد أن أحيا فى الصندوق وأموت فيه.. هنا المكان متسع.. لكنه ليس باتساع الصندوق وراحتى فيه.. عشت حراً 31 عاماً وأنا فى شارع محمد محمود، ولا أتمنى أن تكون نهايتى هنا.. يوم حضرت معهم إلى هنا.. لم أكن أتوقع أن الأمر هكذا.. صندوق كبير بلا مفتاح.. صندوق أتجول بداخله.. أشاهد التليفزيون.. أتناول طعامى.. لكن الصندوق لا أملك «مفتاحه».. أما صندوقى الحديدى ف«مفتاحه» معى.. لا يمكننى العيش هنا.. أريد أن يصل صوتى إلى من أحضرونى هنا.. لن أعيش فى هذا المكان.. فيه سأموت.. ولا أريد أن أموت الآن.. أريد العودة إلى الصندوق الحديدى.. أعيش هنا حراً طليقاً.. أدخل قفصى عندما أبحث عن النوم ويطاردنى.. من أجل هذا. وعندما حضرت إلى هنا.. طلبت منهم أن أجمع مقتنياتى الصغيرة.. بعض الملابس.. بطاقتى.. مفتاحى.. مفتاح الصندوق الحديدى.. أريد أن أعود إليه.. إلى حياتى.. إلى الصحف.. وموظفى السنترال.. أعود.. ومفتاح الصندوق معايا.. المفتاح أهوه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.