واعظا صامتا يجوب بيننا، لا يعرف الوقت المناسب، ربما لا وقت مناسب له في نظر البشر، لكنه قاطعا إذا حضر، تطغى هيبته على كل المشاعر، ويصطبغ كل لون بلونه، فيتحول "الفستان الأبيض" لملابس سوداء، وأزياء السهرة التي استغرق اختيارها أشهر لفرحة لا تأتي في العمر مرتين، لأي رداء أسود، أما القلوب فأنهت فرحتها قبل أن تكتمل، ووقفت العقول من هول الصدمة راجية رحمة وغفران لرجل شهد له بحسن الخلق والطيبة. لحظات فارقة عاشتها أسرة النائب الراحل محمد بدوي دسوقي، فلا أقسى من تبدل المشاهد وتحول المشاعر، من التهاني للتعازي، فزفاف الليل أصبح جنازة في النهار، و"جيلان" العروس التي حلمت بوالدها يسلمها لزوجها، سلمت جثمانه للثرى، وما هي إلا ساعات قليلة وصلى الحاضرون الجنازة في مسجد بدوي دسوقي بالجيزة؛ ليذهب أولاده لدفنه بمقابر الأسرة في الفيوم وتبقى بناته الثلاثة وأمهم في صوان تحت منزله يتلقون العزاء من سيدات الأسرة والجيران وأهالي الدائرة. "رافضات الحديث".. بوجوه حزينة وأعين تترغرغ بالدموع وأجساد تنتابها رعشات مفاجأة لا يكترثن للموجودين، جلس الفتيات الثلاثة إلى جوار بعضهن وحولهن قريباتهن وصديقاتهن للتخفيف عليهن، أما العروس فارتمت في حضن أختها مصدومة، لا يخرج منها أي صوت، فقد فقدت الوعي عدة مرات، منذ ليلة أمس، والأخت الصغرى ترتعش من فرط البكاء. أما الأم فتحاول التماسك، مستقبلة العزاء ودموعها لا تجف، وتسأل عن بناتها من وقت لآخر ساترة حزنها بصمتها، تجلس وسط العزاء بعد وقوفها وسط الزفاف، تستقبل التعازي في شريك عمرها بعد ليلة استقبلت في أولها التهانئ بفرحة فلذة كبدها، وبمشاعر أم تبحث عن بناتها بين الحين والحين وهي قلقة عليهن، بعد ليلة كانت تبحث عن السعادة والأمل في أعينهن وهن يرقصن. خالة العريس: العروس فقدت وعيها لحظة معرفة الخبر بدلت فستان الفرح بملابس الحداد في الفندق صدمة كبيرة.. وصف خالة العريس سلوى الشاعر لحالة العروسة "جيلان" التي كسرت فرحتها يوم زفافها، وعادت في حديثها ل"الوطن" إلى قبل ساعات قليلة من الجنازة، وقت رحل والد العروس، وتقول: "كان الزفاف عامر بالضيوف وكان يجلس هادئا كما اعتدنا منه رجل يتسم بالوقار هادئا، لكن رأسه سقطت على صدره فجأة ما أثار قلق الجميع وأخذوه إلى مستشفى السلام، بعد نحو نصف ساعة من وصول ابنته وعريسها القاعة للاحتفال بزفافهما". محاولات تهدئة لكنها فاشلة، ولا مفر من إعلان الخبر، لحظات تمر كالسنين، والجميع يسأل "ماذا به"، ظن البعض أنه أصيب ب"نوبة سكر" وسيفيق منها، وحاول البعض تهدئة الأسرة من روع الصدمة لكن الموت لا يعرف الحلول الوسط وجاء الخبر القاطع، وفي هذه اللحظة فقدت "العروس" وعيها، أما الأسرة ففقدت سندها فجأة دون مقدمات، واصطبغت فرحة عائلتين بالحزن، واتجهوا إلى المشفى لتوديع الراحل. "لم نكن نعرفه منذ وقت طويل، فأول الاحتكاك به كان بعد تقدم محمد الشاعر ابن أختي لكريمته جيلان، وما أن عرفناه فوجدناه شخصا طيبا كريم الطباع وقور الهيئة، أجاد تربيته أبنائه"، بحسب قول الشاعر. العريس ابن المواقف الصعبة "محمد الشاعر" العريس الذي لم تكتمل فرحته، تصفه خالته التي جلست إلى جوار والدته في الصوان المنصوب تحت منزل الراحل، ب"ابن المواقف الصعبة"، فتبكي والدته رافضة الحديث، وتتابع "الخالة"، لا مفر من الموت ونرضى بقضاء الله لكن هول الصدمة وتحول الموقف أوجع الجميع، "محمد حاول السيطرة على الموقف ومساندة زوجته"، إنما المفارقة كانت حين حملها فاقدة الوعي حزنا بدلا من حملها إلى "عش الزوجية" في اليوم الذي حلما به كثيرا. "بعد ما عرفنا الخبر صعدت العروسة والبنات غرفهن في الفندق بدلوا ملابسهن وذهبن إلى المشفى لتوديع والداهن"، تقول الشاعر، ومع الصباح عادت الأسرتين لمواصلة طقوس العزاء، ليصلى عليه صلاة الجنازة بمسجد بدوي في الجيزة، ويذهب العريس مع أولاده عامر وهشام وكريم ورجال الأسرة لدفنه، وانتظرن بناته يستقبلن العزاء.