تحدثتُ الأسبوع الماضى فى مقالى «أمى وأحمد رشدى» عن الخبراء اليابانيين الذين أخفقوا فى وضع نظام مرورى فى مصر يعالج ما سموه «الفوضى المنظمة» أو «النظام الفوضوى»، قائلين إن قائدى السيارات تآلفوا، فيما بينهم، مع تلك الفوضى وابتكروا ردود أفعال تناسبها، بما يضمن أقل معدل حوادث فى ظل التهريج المرورى الذى نعيشه منذ عقود. حتى جاء اللواء العظيم «أحمد رشدى» وأثبت خطأ النظرية اليابانية، حين طبَّق القانون بحسم وقسوة، فالتزمت «أمى» ثلاث سنوات بقواعد المرور، بعد سحب رخصتها ودفع غرامة محترمة، هى التى كانت تهوى كسر الإشارات والسير فى الممنوع، متحججةً بأنها «أم الأوائل» وأن «النظام فى الفوضى فوضى» و«الفوضى فى الفوضى نظام». القصة إذن ليست «طبيعة» فطرية فى شعب يهوى الفوضى وشعب آخر يحبُّ النظام، إنما هو الخلل فى تطبيق القانون والمحسوبية وثقافة ال«معلش» التى تجعل من شعب ما جماعةً من الفوضويين العبثيين، بعد ما علَّموا البشرية النظامَ والدقَّة والجمال والفنون قبل آلاف السنين! أصدقاؤنا فى البلاد الصحراوية، فى دول الخليج، جلبوا خبراءَ من الغرب وضعوا لهم قوانين مرورية صارمة، التزم بها المواطنون بعدما ألغوا من قاموسهم عبارة «مشيها عشان خاطرى يا خال!»، السائق يحترم الإشارة الحمراء ويقف، رغم أن الشوارع شاغرة ولا رجل مرور فى الجوار، لأنه يعلم أن كاميرا ستسجل مخالفته وسيدفع «صاغراً» غرامة ضخمة إن تجاوز. تراكُم تطبيق القانون بحسم من شأنه أن يخلق، مع الوقت، ثقافةً مغايرة، لأن «التراكم الكمىّ يخلق تغيُّراً نوعياً» كما قال «ماركس». فالطفل الذى يرقب المشهد لن يعرف أن والده يحترم القانون «خوفاً» من العقوبة، بل سيظن أن هذه طبائع الأمور، وحين يكبر هذا الطفل ويصير رجلاً سيحترم القانون «دون» خوف من عقاب، حتى يأتى جيلٌ يقدس النظام، حتى ولو ألغيت العقوبة، وهو الحال الآن فى بلاد الغرب المتحضِّر. نحن البلد الوحيد فى الدنيا الذى كسر «الرهبة» بين الإنسان والسيارة. تجد الإنسان يسير وسط السيارات دون رهبة، بينما فى كل بلاد الأرض يرتعب المرءُ من فكرة النزول من الرصيف إلى «نهر الطريق»، اسمه «نهر» لأنه يُغرق من يهبط فيه دون «مركب» أى «سيارة». هل تعلم أن أكثر من 13 ألف مواطن يموتون فى حوادث الطرق سنوياً فى مصر؟ وأنها أعلى نسبة فى العالم؟ أكثر من ضحايا الكبد الوبائى والفشل الكلوى والسرطان. وما الحل؟ الحل بسيط، نحتاج «أحمد رشدى» جديداً. فرض «رشدى» خلال عهده القصير كوزير للداخلية (1984-1986) غرامة فورية على المشاة حال سيرهم فى نهر الطريق أو عبورهم من غير الأماكن المخصصة، تنكر فى جلباب ودخل الأقسام مطارداً العنف والفساد والمحسوبيات، لهذا أحبه الشعبُ الذى «كان» يهوى الفوضى، لأنه اكتشف أن النظام أمتع وأسلم. وحين قال قولته الشهيرة «المخدرات ستنتهى من مصر. بعد عام من الآن لو ضُبط جرام هيروين سأكون أنا من أدخله»، افتعل أساطين الفساد وأربابُ الفوضى والعبث فتنة كبرى أطاحت به، لأنهم أيقنوا أن هذا الرجل والفوضى Don›t mix. نحن بحاجة ماسَّة إلى ألف «أحمد رشدى»، فى الوزارات، والمحليات، والمدارس، والجامعات، والمؤسسات، والوحدات الصحية، وكل موقع سيادى، بما فيها رئاسة الجمهورية، حتى تنضبط مصر. رحم الله اللواء العظيم! ورحم مصر بمنحها أمثاله!