شهدت باكستان العديد من الانقلابات العسكرية كان أولها في عام 1958 حيث تم فرض الأحكام العرفية لأول مرة. ومنذ ذلك الحين، تم تهميش الطبقة السياسية الهشة وفُرضت سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم. وقد عزز الجيش هيمنته على الساحة السياسية من خلال الظهير الاقتصادي القوي الذي أنشأه. على الرغم من أن الأعمال الاقتصادية للقوات المسلحة تؤدي إلى تحسين قاعدة الموارد التي يعتمد عليها الضباط والقوات المسلحة إلا أنها تؤثر على علاقاتها بالمجتمع المدني والسياسي، فتقدم دافعا لتحقيق الربح والمنافسة مما يطعن في النزاهة المهنية والتماسك المؤسسي للقوات المسلحة. وهو ما يجعلها أقل اعتمادا على المجتمع المدني والسياسي وبالتالي أقل خضوعا للمساءلة. ولكن ما الذي يدفع القوات المسلحة لإقامة المشاريع الاقتصادية بشكل مكثف؟ 1) عدم قدرة الدولة على تقديم الخدمات وعدم كفاية ما تقدمه للمواطنين على الرغم من توفر الموارد 2) قدرة القوات المسلحة، ذات درجة عالية من الكفاءة والتنظيم، على توفير ما عجزت الدولة عن تقديمه 3) وجود تهديد حقيقي للنظام القائم سواء من خلال خصم أجنبي أو إمكانية حدوث حرب أهلية وإذا نظرنا إلى حالة باكستان، نجد أن كل هذه العوامل كانت متوفرة. بالإضافة إلى ذلك ساهم الفساد المستشري للإدارة المدنية إلى زيادة سخط المواطن الباكستاني تجاه الحكومة وهو ما هيئ المناخ للجيش، باعتباره الجهة الوحيدة المنظمة في باكستان، للتدخل والسيطرة والانقلاب على حكومات مدنية فاسدة وغير فاعلة. ولم يكن من المتوقع حدوث ذلك إذا لم يكن للسلطة العسكرية استقلال مالي يدعم موقفها في الحياة السياسية ويزيد من نفوذها في عملية صنع القرار. كما مثل الدعم الأجنبي عاملا مساعدً حيث فضلت الولاياتالمتحدةالأمريكية الجيش على السياسيين في بحثها عن زعيم واحد قوي قادر على تقديم ما تحتاجه من باكستان. فمنذ عام 2003، منحت الحكومة الأمريكية 2 مليار دولار سنويا للحكومة الباكستانية في مقابل الحصول على دعمها في الحرب الافغانية. ولكن ليس هناك شفافية حول كيفية انفاق هذه الأموال فعليا. وبالتالي تحولت القوات المسلحة إلى واحد من اللاعبين الاقتصاديين المهيمنين وساعد على ذلك قدرتها على استغلال الموارد المحلية من خلال وزارة الدفاع. ويتميز الأداء الاقتصادي للمؤسسة العسكرية بباكستان باللامركزية ويعمل في ثلاث قطاعات وهي الزراعة والصناعة التحويلية وقطاع الخدمات وتتراوح الأنشطة من مشاريع صغيرة مثل المخابز إلى بنوك تجارية ومصانع. ووفقا للبيانات المتاحة، تقدر قيمة النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة بحوالي 10 مليار دولار تقريبا ويسيطر الجيش على ما يقدر بثلث الصناعات الثقيلة. وأصبحت بعض الأعمال التجارية والصناعية للقوات المسلحة من القوة فاحتكرت صناعات بأكملها وهمشت المنافسين بها. كما شاركوا في برنامج الخصخصة للدولة ونجحوا في شراء شركات عامة من خلال المناقصات. وفي الفترات التي حكمت فيها الأنظمة العسكرية تم تحقيق معدلات نمو مرتفعة بالمقارنة بالمستويات المتدنية التي حققتها نظيرتها المدنية. ويرجع ذلك إلى السياسات الواضحة التي اتبعوها والالتزام بتحقيقها وانخفاض مستوى الفساد في فترة الحكم العسكري، وتدفق المساعدات الخارجية نظرا للثقة في أداء المؤسسة العسكرية في الحكم والاعتماد على إدارة تكنوقراطية بالإضافة إلى السياسات الرامية إلى تعزيز ثقة المستثمرين من القطاع الخاص مما ساهم بشكل رئيسي في تحسين الأداء الاقتصادي خلال فترات الحكم العسكري. كان أداء الحكومات العسكرية التي جاءت إلى السلطة من وقت لآخر أفضل بكثير من الحكومات المدنية حيث سعت إلى الاهتمام بتوفير خدمات التعليم والرعاية الصحية، والتعامل مع المشاكل الاجتماعية كارتفاع معدلات البطالة والفقر والتي قد أهملت من قبل. وأعلنت عن خطط لإجراء تغييرات عميقة في الحكومة، بما في ذلك خصخصة بعض الشركات والمصانع، وإصلاح شامل لقطاع الزراعة. فقد كان أحد الأخطاء الرئيسية للحكومات المدنية التخلي عن القطاع الزراعي لصالح تطوير الصناعة ولكن نقص الامكانات والخبرات اللازمة وعدم توفر القوى العاملة الماهرة أو التمويل اللازم أدى إلى فشل خطة النهوض بالصناعة، وفي نفس الوقت أدى إهمال القطاع الزراعي إلى حدوث أزمة غذاء. وعلى الرغم من أن الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية تعمل في كثير من الأحيان من خلال الامتيازات كالإعانات والعقود الحكومية التفضيلية إلا إنها تلعب دورا مهما في التنمية الوطنية وعامل إنقاذ في الأزمات، فتأخذ المؤسسات الاقتصادية للجيش على عاتقها مسؤولية إعادة الأعمار والتأهيل وتوفير الإغاثات وعمليات الإنقاذ خلال الكوارث الطبيعية. ففي ظل عدم قدرة الحكومة على التعامل مع الأزمات المتتالية، تدخلت المؤسسة العسكرية لتوفير السلع العامة. فنجد أن باكستان واجهت أزمتين في أواخر 1970، الأولى هي احتمالية وقوع مجاعة في عام 1978 أما الثانية فكانت بداية الحرب الأفغانية في عام 1979. ولم تكن البنية التحتية مناسبة للتعامل مع هذه الأزمات، مما دفع الجيش إلى توفير وسائل نقل عامة، وتوزيع الأغذية، والقيام بمشاريع بناء. ولكن القوة الاقتصادية للجيش في باكستان تعتبر مكلفة سياسيا واجتماعيا. فسياسيا، تزيد طموحات القوة العسكرية في السيطرة على الساحة السياسية وهو ما يوضحه طول استحواذهم على الحكم عن طريق انقلابات عسكرية. وهو ما يعقد عملية ابعاد العسكريين عن السلطة إلا في ظل تغييرات كبيرة في البلاد التي تجبر القوات المسلحة على الانفصال عن السلطة السياسية. أما اجتماعيا، تضفي هذه المصالح الاقتصادية طابع مؤسسي على الاستغلال الاقتصادي للموارد. فيتحول الجيش الى مؤسسة تستخدم سلطتها من أجل الحصول على العديد من المزايا الاقتصادية فتم تخصيص العديد من المناصب في القطاع العام للضباط المتقاعدين ولجأت شركات القطاع الخاص لتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال كسب ود المؤسسة العسكرية وتعيين ضباط في مجالس إدارة الشركات للمساعدة في التفاوض على الضوابط والقوانين التي تخضع لها الشركات. وقد كان لهذه العلاقات بين القطاع الخاص والمؤسسة العسكرية أثر كبير حيث استفاد منها المستثمرين والضباط على حد سواء. ولذلك وحتى لا تخلط مهمة المؤسسة العسكرية الرئيسية وهي الدفاع بأعمال سياسية واقتصادية ليست من اختصاصها، يجب وجود كيان اقتصادي كفء يعمل كبديل عن الجيش في تقديم مثل هذه الخدمات والسلع وادارة مدنية فعالة تتميز بالنزاهة. ولكن يبقى السؤال المطروح هل ستقبل القوات المسلحة الباكستانية التخلي عن استقلاليتها المالية؟