تعالوا بنا نهرب من تجهم شيوخ هذه الأيام وفتاوى نكد دعاة هذا الزمن ممن يحرّمون عيد الحب ويطاردون الحس والإحساس ويغتالون الشعر والمشاعر وينحتون أصناماً بشرية من فولاذ تعشق الانتحار بالسيارات المفخخة ويغرمون بذبح البشر وهماً ورغبة فى الحصول على مكان فى الفردوس الذى صادروه لصالحهم ويخدّرون الشباب فى ثوب الفضيلة المزيفة وغرف تعقيم الورع الكاذب والكبت المتأجج والقمع الحارق، استعداداً للقاء الحوريات السبعين!، تعالوا نقرأ فى عيد الحب شيخاً من زمن آخر أكثر تسامحاً وأقل كراهية، الشيخ الفقيه المجدد ابن حزم الذى كتب عن الحب «طوق الحمامة» دون إحساس بالذنب والخطيئة والإثم والنجاسة، كتب فى القرن الرابع الهجرى ما نخجل نحن منه الآن فى سنة 1435 ه!!، فقيه العشق والغرام الذى لم يخجل من وضع كتاب كامل عن الحب قام بتشريح هذه العاطفة الإنسانية بمنتهى الروعة والجمال، مستحضراً واقع قرطبة ومشرّحاً جسد زمنه وعازفاً على إيقاع وقته ومكانه، لا غارقاً فى أضابير وسراديب كتب صفراء خرساء قديمة تتحدث عن حفريات الحب، لا عن روح الحب النابض وجسده الفائر الحى، تعالوا نقتبس من ابن حزم ونفتح شهية من يريد المزيد من مائدة هذا العبقرى: ■ من علاماته وشواهده الظاهرة لكل ذى بصر الانبساط الكثير الزائد، والتضايق فى المكان الواسع، والمجاذبة على الشىء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفى، والميل بالاتكاء، وتعمّد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة. وشرب فضلة ما أبقى المحبوب فى الإناء، وتحرى المكان الذى يقابله فيه. ■ ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعى سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام فى أخباره ويجعلها هجيره، ولا يرتاح لشىء ارتياحه لها ولا ينهاه عن ذلك تخوّف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشىء يعمى ويصم. فلو أمكن المحب ألا يكون حديث فى مكان يكون فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه. ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ فى الطعام، وهو له مشته فما هو إلا وقت، ما تهتاج له من ذكر من يحب صار الطعام غصة فى الحلق وشجى فى المرء. وهكذا فى الماء وفى الحديث فإنه يفاتحكه متبهجاً، فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب، فتستبين الحوالة فى منطقه والتقصير فى حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانفلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال ومن علاماته حب الوحدة والأنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حد يكون فيه ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشى. دليل لا يكذب ومخبر لا يخون عن كلمة فى النفس كامنة. ■ ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته. والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشئون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم، وكان الأصل فى ذلك إدمانى أكل الكندر لخفقان القلب، وكان عرض لى فى الصبا، فإنى لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبى يتفطر ويتقطع وأحس فى قلبى غضة أمر من العلقم تحول بينى وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشوقنى النفس أحياناً ولا تجيب عينى ألبتة إلا فى الندرة بالشىء اليسير من الدمع. ■ ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا تسقط عنه دقيقة ولا جليلة، وتتبعه لحركاته. ولعمرى لقد ترى البليد يصير فى هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.