لم يعد أمام الفريق أول عبدالفتاح السيسى خيار آخر، لقد انتظر خروج الجماهير فى الذكرى الثالثة لاحتفالات ثورة الخامس والعشرين من يناير، ليحسم قراره النهائى. كان الخروج هذه المرة تحدياً جديداً من الجماهير الشعبية ضد الحكم وضد قوى الشر التى لا تريد خيراً لهذا البلد.. كانت الشائعات والتهديدات تنبئ بما هو غير متوقع، إلا أن الشعب المصرى فاجأ الجميع مرة أخرى، لقد خرجت الملايين رافعة صور القائد العام، تطالبه بالترشح وحسم الخيار سريعاً. لقد راهنت جماعة الإخوان على أن يوم الخامس والعشرين من يناير سوف يكون اليوم الأخير فى عمر النظام الحالى، نظام ثورة الثلاثين من يونيو، لكن رهانهم سقط، كما سبق أن سقطت رهانات كثيرة ومتعددة. كانت المؤشرات قد أكدت أكثر من مرة أن السيسى لن يرفض للشعب أمراً، كان يقول دوماً: «الشعب يأمر ونحن ننفذ»، غير أن سبب عدم حسمه للقرار فى الفترة الماضية أنه كان يدرك عظم المسئولية وخطورة المرحلة، لكنه أبداً لم يتراجع أو يهرب من الميدان، كان ينتظر اللحظة التى يحسم فيها القرار بعد مناقشات وحوارات، وأيضاً كلمة الشعب الأخيرة. فى الحادى والثلاثين من أكتوبر الماضى، كانت جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا قد أقامت احتفالاً كبيراً بنادى الجلاء، للاحتفال بالذكرى الأربعين لانتصار أكتوبر 1973، وقبيل بدء فعاليات الاحتفال بقليل، كنت قد سألت الفريق أول السيسى فى جلسة خاصة عن رؤيته للواقع المصرى فى الفترة الراهنة، تحدث الرجل عن الحالة المصرية والوضع الاقتصادى بطريقة تعكس وعياً حقيقياً بمشاكل المجتمع، لكنه أبداً لم يكن يائساً من القدرة على مواجهة التحديات. وعندما دخل إلى القاعة، ومع انتهاء الحفل، تحدث السيسى حديثاً من القلب عن الحالة المجتمعية الراهنة وهو حديث لم تجر إذاعته، وعندما طالبه أحد الحاضرين بحسم أمره والترشح لانتخابات الرئاسة، قال السيسى ساعتها «ما أسهل أن يأتى رئيس جمهورية، لكن المشكلة الأكبر هى كيف سيتعامل مع مشاكل المجتمع»، وقال «إن موازنة مصر لا تفى إلا ب٪10 من احتياجات الشعب المصرى»!! فى هذه اللحظة صفق الحاضرون، وعلت الأصوات لتقول: «احنا معاك وحنتحمل وسنكون سنداً لك، اعقلها وتوكل»!! لم يكن السيسى يسعى إلى الحكم، لقد رفض منذ البداية اقتراحاً بتشكيل مجلس قيادة ثورة وتولى رئاسته، لقد قال لمحدثيه فى يوم الثالث من يوليو، يوم الحسم والانحياز لإرادة الشعب المصرى «هذه أمانة علينا أن نسلمها لأصحابها ولهم وحدهم الخيار والقرار الأخير». كان السيسى صادقاً فى وعده وتعهداته، لقد ترك كل شىء لقوى المجتمع المدنى، قال منذ البداية «الباب مفتوح للجميع»، تم توجيه الدعوة إلى الجميع، بمن فيهم قادة حزب الحرية والعدالة، ظن السيسى أن هؤلاء سينصاعون لإرادة الشعب وخياره الثورى، لكنه فوجئ برفضهم، بالضبط كما فعل مرسى ومكتب الإرشاد برفض نداءات القيادة العامة للقوات المسلحة للرئيس المعزول بضرورة الانصياع لمطلب الشعب وتجنيب البلاد خطر الفوضى والموافقة على الاستفتاء على إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة. منذ هذا الوقت، ترك السيسى أمور الحكم للإدارة الجديدة التى حددتها خارطة المستقبل وتولى أمرها رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذى تولى مهام الحكم فى البلاد بشكل مؤقت، وإلى جواره حكومة لم يكن الجيش طرفاً فى تشكيلها، إلا بترشيحات محدودة، لكنه فضل أن يلقى إليها بعبء المسئولية دون تدخل فى شئونها، حتى أن رئيس الوزراء د. حازم الببلاوى قال فى أكثر من حديث تليفزيونى «إن السيسى كان يلتزم الصمت فى كثير من اجتماعات مجلس الوزراء ولم يكن يتحدث إلا قليلاً، وإنه لم يتدخل من قريب أو من بعيد فى شئون الحكم». هكذا كان عهد الرجل، والمعروف بصدقه ونزاهته وحرصه على الالتزام بوعوده وتعهداته، لكن تداعى الأحداث فى البلاد، وعدم قدرة الحكومة على حسم الكثير من الأمور، دفع الشعب المصرى إلى البحث عن خيار «السيسى» ليتولى حكم مصر فى هذه الفترة التاريخية الخطيرة من تاريخ البلاد. لقد أدرك المصريون أن الأوضاع التى تعيشها البلاد فى أعقاب ثلاث سنوات تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير وسادت فيها حالات الانفلات والتردى تستوجب الدفع بمرشح قوى ويحوز على ثقة غالبية المصريين فى انتخابات الرئاسة. لقد اهتدى الرأى العام ودون تردد إلى أن هذا الشخص الجدير بقيادة السفينة فى مواجهة العواصف والبراكين هو الفريق أول عبدالفتاح السيسى. كانت الرغبة عارمة، والحاجة ملحة، أدرك المصريون أن المواصفات التى يتمتع بها السيسى، جسارته وقوته، قدرته وحسمه، إنسانيته وعطفه، فكره وثقافته، وعيه وعقيدته الوطنية، كل هذه صفات تدفع إلى اختياره لتحمل المسئولية فى هذه الفترة. كان العقل الجمعى المصرى قد حسم أمره، وكان الخيار الشعبى قد استقر على اسم «القائد» وكينونته، ولم يبق أمامه سوى أن يستجيب لإرادة الجماهير. ومع تصاعد أعمال الإرهاب بالداخل، وتصعيد الضغوط والمؤامرات من الخارج، ازداد إلحاح المصريين، إنهم يريدون أن يسمعوا كلمة واحدة من الرجل الذى أنقذ مصر من خطر الفوضى وحمل روحه على كفه، ولم يعبأ بالضغوط أو يستجيب لها. وفى الندوة التثقيفية الثامنة التى عقدت بنادى الجلاء يوم السبت 11 يناير الماضى، كان السيسى يبدو أكثر قبولاً للخيار الشعبى، فقد حدد الموقف من الترشح لانتخابات الرئاسة على الوجه التالى: 1- دعونا ننتهى من استحقاقات الاستفتاء على الدستور أولاً وقبل أى شىء. 2- لا بد من الحصول على تفويض من الجيش للترشح أولاً. 3- إذا قرر الشعب فلن نستطيع سوى الاستجابة. 4- مدى استعداد الشعب لتحمل المسئولية معى!! كانت الإجابات عن التساؤلات التى طُرحت تؤكد بالفعل أن «السيسى» يمضى على طريق الترشح للانتخابات الرئاسية، لكنه فقط كان ينتظر الكلمة الأخيرة للشعب، وكانت الكلمة الأخيرة تتركز فى أمرين: - نسبة المشاركة والموافقة على الدستور الجديد، وقد جاءت نسبة المشاركة بما يزيد على ٪36 أى بزيادة عددية تبلغ حوالى 3.5 مليون ناخب على الاستفتاء على دستور الإخوان فى ديسمبر 2012، وجاءت نسبة الذين قالوا نعم لتصل إلى أعلى نسبة متوقعة وهى ٪98.1 بينما لم يحصل دستور الإخوان إلا على نسبة ٪63.8 من المصوتين. - وكانت النقطة الثانية هى خروج الشعب المصرى فى 25 يناير، فجاء الخروج مبهراً يومى 24 و25 يناير، حيث رفع ملايين المشاركين صور الفريق أول عبدالفتاح السيسى فى كافة الميادين والشوارع يطالبونه بالترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، باعتباره رجل المرحلة، فكان ذلك استفتاءً جديداً. وفى مساء هذا اليوم الخامس والعشرين من يناير كان «السيسى» قد اتخذ قراره النهائى ولم يبق سوى الإعلان. وبعد إعلان الرئيس عدلى منصور أن الانتخابات الرئاسية سوف تجرى قبل الانتخابات البرلمانية، أصبح الأمر الآن محسوماً ولم يتبق سوى الإعلان. وسوف يتضمن إعلان الفريق أول السيسى الترشح لانتخابات الرئاسة برنامج عمل مقروناً بهذا الإعلان، هو أقرب إلى التعهدات التى سيتضمنها الخطاب الذى سوف يلقيه على الشعب والذى يحتوى أيضاً على استحقاقات المرحلة المقبلة ومطالب الجماهير الأساسية. ووفقاً للمعلومات فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سوف يختار وزير الدفاع البديل والذى سوف يحظى اسمه بتوافق عام داخل المجلس. ومن الطبيعى فى ضوء ذلك أن يجرى تغيير وزارى واسع فى البلاد، ومقابلة الرئيس أمس للدكتور الجنزورى أمر لا يخلو من دلالة، فى ضوء التكهنات السائدة فى البلاد. وهكذا بعد أن حسم المصريون خيارهم باتجاه السيسى أصبحوا ينتظرون لحظة الإعلان ومضمون الخيارات التى سيعلنها خلال الساعات المقبلة.