كنت أفكر فى هذا الشعب المصرى المحيّر.. أخذت أسترجع رد فعله على كل رئيس جديد وفصل جديد، سواء كان «ثورجى» أو «انقلابى» أو «تخريبى» أو «إخوانى».. هوجة من الترحيب والتمجيد والتعظيم.. تصل بعد الإلحاح الشديد والمكثف إلى التقديس.. وهنا يصبح النقد الموضوعى والتحليل العاقل للأهداف والنتائج كفراً وزندقة وإهانة للشعب الثائر والشهداء الأبرار والشباب الطاهر النقى. والغريب أن هذا التقديس للزعماء سرعان ما يتحول بعد زوال الملك وفراغ العرش إلى لعنات واتهامات وسباب وقصص بذيئة تلقيها على الناس فئة دائماً ما تطفو على السطح وتصدح فى الإعلام والصحف بعد كل زعيم وبعد كل حدث مجيد بالمدح والسباب، وغالباً ما تكون هذه الفئة من أحباب الزعيم السابق الذين يسرعون بغسل السمعة مثلما تغسل الأموال.. وينتقلون فجأة من قافلة حملة المباخر إلى ميادين الثورة.. جلست أفكر فى هذه الظاهرة التى تجعل المصريين يستقبلون الرئيس الجديد بالهتاف المنافق الكاذب «بالروح بالدم» ثم يشيعونه باللعنات.. والنتيجة أن يتحول كل الزعماء على مدى عقود طويلة إلى مجموعة من الخونة الفاسدين فتتحول الأيام والسنوات إلى سواد.. قلت ربما تكون فترة الاحتلال الطويلة من تاريخ المصريين، التى بدأت قبل الميلاد بخمسمائة عام منذ دخول الفرس وحتى قيام مصر الحديثة على يد «محمد على» هى السبب.. قد تكون السبب فى ترسيب كره وبغض للحكام فى التراث المصرى، يظهر دائماً فى سلوك الاستقبال الرائع المنافق الكاذب والوداع باللعنات والاتهامات الكاذبة أيضاً.. أصبح هذا السلوك إرثاً، ومن يعارضه يصبح متجرداً من وطنيته. ورغم انفتاح الفضاء المعلوماتى الرهيب فى العصر الحالى فإن عدم التقييم الموضوعى لكل مرحلة ولزعامتها يجعل الأمور تتداخل، فنرى الهاتفين بسقوط حكم العسكر يحملون صورة «عبدالناصر».. ونرى النخبة تصف «السادات» الذى تحررت سيناء على يديه بالخائن العميل، ونرى عصر «مبارك» عصراً لتكميم الأفواه والظلم والاستبداد، وهو الذى جرّف العقول ونشر الجهل فى الشباب، ثم نهتف للشباب الواعى محرر مصر قائد الأمة فى المستقبل. وكذلك فى تقييم الثورات والانقلابات.. فهى كلها بلا استثناء «مجيدة» وشريفة وأبهرت العالم.. كلها.. ورغم اختلاف الدوافع والنوايا واختلاف المكاسب والخسائر والنتائج فإنها فى نظر أولى الأمر سواء، حتى لا يغضبوا أحداً. وللأسف الشديد ينعكس هذا الخلل واختلاط الرؤية والتقييم على مناهج التاريخ للنشء والشباب، فقد تحولت المناهج إلى دعايات سياسية حسب الأهواء.. يبرر فيها الحدث والتغيير طبقاً للنوايا ورغبة فى التمجيد والتعظيم.. ويتحول القديم فوراً إلى الفاسد المستعبد والجديد هو الشريف المحرر الذى علمنا العزة والكرامة.. ويتردد الحديث الإعلامى والصحفى على نمط أغنية «محمد قنديل» التى كنا نرددها كالببغاوات ونحن صغار.. «كنا عبيد وبقينا أحرار».. ومثلما يحدثنا الشباب الطاهر النقى «إنتو عبيد واحنا اللى حررناكم». تحولت المناهج إلى صحيفة يومية تقيّم الحدث بعد أيام ليوضع فى كتاب التاريخ قبل أن يتحول الحدث إلى تاريخ.. وتذكروا معى فى نصف العام الأول من 2011 درس الأطفال والشباب إنجازات «مبارك» والضربة الجوية وإنجازات سوزان مبارك الكثيرة، ثم فى النصف الثانى من نفس العام تم حذف كل هذا واستبدل بالسباب، والتمجيد فى الثورة المجيدة التى قامت ضد «المخلوع». وبعد فوز «مرسى» فى منتصف 2012 جاء النصف الأول من 2013 بالمناهج، وهى متوجة بحسن البنا مؤسس الجماعة.. وفكر الجماعة الذى سوف ينهض بالبلاد وينشر فيها الإسلام.. وفى النصف الأول من عام 2014 تحولت الجماعة إلى «إرهابية» وتحول الرئيس المسلم المنتخب إلى «معزول». ولن أتساءل عن مدى استفادة القارئ، سواء كان طفلاً أو صبياً أو شاباً من هذا العبث، لأن الإجابة واضحة. وهذه السياسة الموجهة البغيضة المغرضة لن تنتج إلا كفراً بالتعليم والتاريخ والهوية والوطن. ومنذ أسابيع ونحن فى موجة واضحة من المغازلة والطبطبة على ثورة يناير المجيدة والشباب الطاهر، فهى الثورة التى قضت على دولة الظلم والاستبداد وجاءت لنا بالحرية والكرامة الإنسانية وكذلك معها فى نفس الجملة والسطر أختها فى الرضاعة ثورة 30 يونيو المكملة لها.. والمجيدة طبعاً، والتى قضت على دولة الظلام والاستبداد، والاثنتان مجيدتان والاثنتان ثورة شعب حر، وأضيفت مؤخراً إليهما ثورة يوليو 1952.. المجيدة برضه، والتى حررت الشعب من الاستعباد. لم يسأل أحد نفسه لماذا بعد كل ثورة مجيدة تحررنا من العبودية تأخذنا هى نفسها إلى العبودية مرة أخرى حتى تأتى الثورة التى بعدها فتجدنا شعباً مستعبداً فتحررنا ثم تسير بنا إلى الظلم والعبودية، وهكذا تتحول الثورات المصرية إلى شىء يشبه الصابون عند العرب.. كله سواء.. والسبب عبودية، والنتيجة النهائية أيضاً عبودية. والنتيجة النهائية لكل هذا الآن وأنا أسطر هذه الكلمات أن الاحتفالات بالذكرى الثالثة لثورة يناير المجيدة التى تم خطفها والاستيلاء عليها رغم أنها «مجيدة» قُوبلت من الإخوان باحتفال مماثل بثورتهم المجيدة أيضاً فوزّعوا القنابل والعبوات والتدمير والرصاص والتفجير والخراب والخوف والتهديد والوعيد بدماء غزيرة وقضاء على الأخضر واليابس توزيعاً عادلاً ومتساوياً فى أنحاء مصر المحروسة. ربما أفتقر إلى الفكر السياسى والحوار الدبلوماسى والليونة والمواراة، ولكنى أرى أن ما يحدث هو ما يصيبنا بانعدام الرؤية وخلط المفاهيم وفوضى المصطلحات والعمى والغفلة، مما يبشر بأيام ليست بالرائعة.