العبادة الصافية، السارية فى قلوب الصالحين سريان ماء الورد فى الورد، تورث الأنس بالله تعالى، وتصب فى القلوب فيضاً من اليقين، والقرب، حتى يجد الإنسان فى باطنه خِفة وأنساً وذوقاً للطاعة والفرائض والسنن، تزول به عن النفس مشقة الفرائض، وصعوبتها، وتسطع به فى النفس بارقة من الأنس والميل والحنين إليها، ويجد فى باطنه انزعاجاً ولوعةً لفقدها، وسكوناً وطمأنينة لوجودها، ولا يزال الإنسان النبيل يَقْدُرُ للفرائض والسنن قَدْرها، ويكابد النفس ويجاهدها فى القيام بها أحسن قيام، ويذكر النفس بأنها هى خير زاد فى طريق الآخرة، وفى رحلة اليقين، وفى السير إلى الله، مع الدوام والتكثيف للعوامل التى تجلو اليقين فى النفس، وتقرب من الغيب، وتغمس الإنسان فى هيبة جلال الله، ورجاء ما عنده، حتى تتحول الطاعة إلى طبع، فتنقلب المشقة فيها إلى ميل جارف إليها، واشتياق لها، قال الإمام الجليل الحبيب عبدالله بن علوى الحداد رحمه الله: (واعلم أن قيام الليل من أثقل شىء على النفس، ولا سيما بعد النوم، وإنما يصير خفيفا بالاعتياد، والمداومة، والصبر على المشقة، والمجاهدة، فى أول الأمر، ثم بعد ذلك ينفتح باب الأنس بالله تعالى، وحلاوة المناجاة له، ولذة الخلو إليه عز وجل، وعند ذلك لا يشبع الإنسان من القيام، فضلا عن أن يستثقله، أو يكسل عنه)، قلت: وللعبادة فى نفوس الصادقين لَوْعةٌ تُنَازِلُ الباطن، وتُشْبِعُ فيه حنينا إلى الغيب الشريف، وظمأ إلى الملأ الأعلى، وميلا جارفا إلى الاستمداد والمخاطبة لرب العالمين، واختراق حجب الغيوب، حتى كأن الإنسان ماثل بين يدى ربه، يخاطبه، ويحتمى به، ويركن إلى عظمته، ويهفو إلى معرفته، والفهم عنه، وشهود جلاله، ومعرفة أقدار أنبيائه وأوليائه، بحيث إذا ما غابت تلك المعانى الشريفة الجليلة عن الإنسان صار مثله كمثل أُمٍّ، غاب عنها ولدها سنين عددا، فهى فى أشد الشوق إليه، وتعلق الباطن به، والتشوق إلى رؤيته، فثمرة الأنس بالله تعالى من أجل ثمرات العبادة على الإطلاق، وهى من أشرف ما تخاطبه العبادة فى باطن الإنسان، ولا تزال الفرائض والسنن والآداب والهيئات والأذكار والأوراد والنوافل والأخلاق تتعاضد وتتعاون على إيقاظ هذا المعنى فى باطن العبد، وتنبيه الفؤاد إلى أن من وراء حجب هذه الأكوان أصلا عظيما، وعالما علويا، له بالإنسان صلة وارتباط، وأن الله جل شأنه أنعم على تلك الأكوان جميعا بنعمة الإيجاد والإمداد، ودعاها إلى معرفته، وأنها جميعا تسبح بحمده، وتتنعم بتمجيده وتقديسه، وتسبح فى أفلاك إنعامه، وكل ذلك يحرك فى باطن الإنسان الأنس بالله تعالى، والاطمئنان بذكره، حتى كأن الفرائض قد أودعت فيها خيوط من الرحيق يرتشفه الإنسان، وحينئذ يزداد ركون باطنه إلى الله، ويفزع إليه فى كل نائبة، ويمعن فى البحث والدراسة والتأمل لاستخراج السنن والقوانين الإلهية السارية فى هذا الكون، فتنكشف بذلك علوم وأسرار، ويزداد الفهم عن الله، ويستنير العقل بنور المعرفة، وينطلق فى استخراج دوائر العلوم، وعمارة الأرض وصناعة الحضارة، التى تحقق الرخاء، وتجعل هذا الإنسان رحمة للعالمين، (وللحديث بقية).