ستة أفلام فقط من بين أكثر من مائتى فيلم هى حجم مشاركة مصر هذه الدورة من المهرجان، وإذا استثنينا فيلمَى «عرق البلح » للراحل رضوان الكاشف و«الصعاليك » للقدير داوود عبدالسيد، حيث عُرضا فى إطار البرامج الخاصة؛ برنامج الفيلم الأول والفيلم الفلسطينى المصرى القطرى القصير «رغم أنى أعرف أن البحر جاف» للمخرج عمر روبرت هاملتون باعتباره إنتاجاً مشتركاً يُنسب إلى الدول المشاركة فى تمويله، سوف يتبقى فى المسابقات الرسمية المتعددة فى المهرجان ثلاثة أفلام فقط موزعة على ثلاث مسابقات، فيشارك المخرج هشام القطشة فى مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بفيلم «القيادة فى القاهرة»، وتشارك أيتن أمين بفيلمها «ڤيلا 69» فى مسابقة آفاق جديدة، إضافة إلى المشاركة فى المسابقة الرئيسية، مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بفيلم «فرش وغطا» للموهوب المخرج والمونتير أحمد عبدالله، صاحب «ميكروفون» و«هليوبوليس» اللذين شاركا فى العديد من المهرجانات فى مصر وخارجها، وحصدا عدداً من الجوائز المحلية والدولية، وحظيا بتقدير وافر من النقاد وقدما صاحبهما بما يليق به من حفاوة.. لكن «فرش وغطا» جاء مخيباً لآمال الكثيرين ممن شاهدوه فى المهرجان، واتفق معظمهم على أنه أقل كثيراً من فيلمَى عبدالله السابقيْن، وانعكست تلك الآراء فى كتابات عدد من النقاد والصحفيين المصريين والعرب، وعلّل بعضهم مشاركة الفيلم فى المسابقة الرسمية بأنه جاء معتمداً على سمعة مخرجه ورصيده السابق -شأن بعض الأفلام العربية بالمهرجان- وإن كان للجنة تحكيم مهرجان مونبلييه، الذى انعقد فى فرنسا فى ذات التوقيت تقريباً، رأى مخالف حيث منحته الجائزة الذهبية فى المهرجان بعد أن خرج خالى الوفاض من «أبوظبى»، وهو ما يفتح باباً للحوار حول ذلك التفاوت فى التقدير! فى مسابقة «آفاق جديدة» اشتركت مصر بفيلم «ڤيلا 69» أول الأعمال الروائية الطويلة للمخرجة الواعدة أيتن أمين صاحبة الجزء الثانى المعنون «الشرس» فى الفيلم التسجيلى الطويل «الطيب والشرس والقبيح» مع المخرجيْن تامر عزت وعمرو سلامة، وقد تبدت موهبتها فى التعامل مع الشخصية التى اختارتها بذكاء من بين المئات من ضباط الشرطة الذين شاركوا فى محاولة قمع مظاهرات 25 يناير وما بعدها وطرحها لأسباب انهيار الشرطة مساء الجمعة 28 يناير 2011! فى «ڤيلا 69»، وربما كان فى الاسم إشارة إلى جيل الستينات وما أصابه من وهن ويمثله المهندس الناجح حسين «خالد أبوالنجا» عاشق الحياة والموسيقى، تزوج مرتين وبرع فى عزف العود وتعاطى المخدرات، المريض الذى جعل من ڤيلته محبساً اختيارياً لا يخرج منه إلا إلى القبر، بعد أن أخفى حقيقة مرضه عن الجميع عدا خادمه الذى آثر الابتعاد هرباً من لحظة وداعٍ آتية، ووشى بالسر إلى شقيقة مخدومه كى ترعاه فى أيامه الأخيرة رغم ما بينهما من شقاق قديم، لتقيم معه هى وحفيدها المراهق ليبدأ الصراع بين الماضى «حسين» والمستقبل «الحفيد»، وهو أيضاً من هواة الموسيقى والمخدرات وينظر للحياة بأفق أرحب وأوسع، ويتعامل مع الجد حسين باحترام رغم عدوانية الجد المفرطة وفظاظة أسلوبه فى التعامل مع شقيقته والآخرين عدا ممرضته الشابة التى يتعامل معها بمودة وسماحة والفتاة الشابة التى تروى تعطشه لحنان صادق وتجد فى أحضانه ملاذاً دافئاً. يمضى سيناريو محمد الحاج ومحمود عزت متثاقلاً يفتش أحياناً فى ذاكرة المهندس كى يكمل صورته القديمة بشذرات خافتة لا تفى بما يريد، أو يتابع هلاوسه المتجددة التى تصطرع فى مخيلته بعد كل جرعة دواء، وإن لم ينجح المونتير عماد ماهر فى خلق علاقة عضوية بين هذه المشاهد وحركة الدراما، زادها ارتباكاً ذلك التغميض المفتعل حول حالته المرضية وعن السيدة التى اقتحمت المنزل بحفيدها وحقائبها ليخبرنا بعد فترة أنها شقيقته بأداء متوازن من لبلبة وأداء لافت لخالد أبوالنجا الذى اجتهد فى اقتناص أبعاد الشخصية مع تأثر واضح بأسلوب الفنان الكبير جميل راتب، وأضافت هبة يسرى قدراً لا بأس به من الحيوية على مشاهدها.. تظل العلاقة المتأرجحة بينه وبين الحفيد تمثل الجزء النابض بالحياة داخل الفيلم، والتى تنتهى بأن يصحبه الحفيد فى سيارته القديمة -الستينية- فى نهاية مفتوحة، ربما فى رحلة الوداع أو إلى مرحلة جديدة مختلفة قد تتلمس قدراً من البهجة القديمة. وقد منحته لجنة تحكيم المسابقة التى ترأستها المخرجة التركية يشيم أوسته أوغلو جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم عربى فى المسابقة، متفوقاً على ثلاثة أفلام عربية مشاركة. شريف القطشة صاحب «القيادة فى القاهرة» وُلد فى الولاياتالمتحدة ونشأ بمصر ثم عاد إلى الولاياتالمتحدة مرة أخرى لكنه يُؤْثر صناعة الأفلام عن موطنه مصر برؤية نقدية وروح عذبة وإيقاع متدفق لاهث ينتظم مئات اللقطات التى صورها على مدار عدة سنوات ليكشف من خلالها عن تلك الفوضى الضاربة فى شوارع القاهرة حيث تُزاحم أربعة عشر مليوناً من المركبات، عشرين مليوناً من البشر فى مشهد عبثى -رغم واقعيته- يندر أن تجد له مثيلاً فى العالم، فهنا يغيب القانون تحت سطوة الفساد، ويقبل شرطى مرور بائس فى خجل هبة صغيرة من أحد أصحاب السيارات ويشكو السائقون من الشرطة والركاب وكل يلقى باللوم على الآخر رغم أنه هو جزء من المشكلة وأحد أسباب الأزمة الطاحنة التى هى فى جوهرها انعكاس للواقع المتردى الذى يفضحه القطشة بشجاعة، حين يكشف فى النصف الثانى من الفيلم عن الفوارق الطبقية الهائلة التى تعبر عنها أنواع العربات من الكارو وال«تك تك» الذى يعيث فساداً فى شوارع المحروسة إلى سيارات المرسيدس والهامر، ويشير بوعى وحصافة إلى العديد من مناحى الفساد المستشرى فى جسد المجتمع المترهل بسبب سوء التخطيط وغياب التنظيم وسيادة الرشوة وعدم احترام القانون. ينهى شريف القطشة فيلمه نهاية تراجيدية، تلخص وتعكس حال مصر الآن حين يقتل أحد السائقين مواطناً مترجلاً على الطريق، ليغمر السواد الشاشة، ليحصل القطشة على جائزة أفضل مخرج من العالم العربى عن استحقاق وجدارة.