واجهت الدولة المصرية فى مراحل تاريخية (مراحل انحطاط أو احتلال أجنبى) محاولات لاقتطاع جزء من أراضيها؛ تم إجهاض بعضها بالقدرات الذاتية وبحسن استثمار الظروف الدولية والإقليمية (على سبيل المثال محاولة السودان تحويل الحدود الإدارية فى حلايب وشلاتين إلى حدود سياسية ومحاولة إسرائيل الاستيلاء على طابا) ونجحت بعضها (ضم واحة جغبوب إلى ليبيا عام 1936 باتفاق بين دولتى الاحتلال بريطانيا فى مصر وإيطاليا فى ليبيا). بعد ثورة 25 يناير، ثم تحت حكم جماعة الإخوان ومندوبها فى قصر الرئاسة محمد مرسى، واجهت مصر محاولة جديدة.. التنازل عن حلايب وشلاتين للسودان تحت لافتة الأمة الإسلامية وأرض الإسلام للمسلمين؛ وعن جزء من سيناء لإقامة دولة فلسطينية إخوانية عاصمتها غزة تحت حكم حركة حماس، الفرع الفلسطينى للجماعة. ولتحقيق هذا الهدف كان لا بد أن تسبقه خطوة إضعاف الجيش المصرى أو تفكيكه، فذلك أول دروس تاريخ مصر مع الغزاة والاحتلالات الأجنبية؛ ففى التاريخ الحديث سبق احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، إجهاض الثورة العرابية وضرب الجيش الوطنى وإهانة قادته (أحمد عرابى ورفاقه) بالبصق فى وجوههم فى الشوارع، بوصفهم زنادقة حسب الفرمان العثمانى (تركيا برضه)؛ وكان أول قرار للخديو توفيق -بعد نجاح خطة تمكين بريطانيا فى مصر- هو إلغاء الجيش! وتجريد الضباط الذين قاوموا المؤامرة من رتبهم ومحاكمتهم وسط المطالبة بإعدامهم (راجع كتاب مصر - البعث الوطنى، لعبدالرحمن الرافعى). لكن تلك المؤامرة الإخوانية بدعم أمريكى تركى قطرى، جاءت هذه المرة فريدة من نوعها لأنها جاءت بعد ثورة شعب بدا أنها انتصرت على فساد واستبداد عصر مبارك؛ وفى ظل أول رئيس «منتخب» من شعبه لأول مرة على امتداد تاريخها.. أليست فرصة نادرة لمن يريد اقتطاع جزء من أرض مصر أن يتخذ الشرعية جسراً ومظلة.. وأن ينفذ ذلك رئيس منتخب؟ ومن سيزايد على رئيس يتنازل عن الأرض -إن فعل- باسم «الإسلام»؟ هنا تكشف التقارير المستجدة عن هذه المؤامرة أبعاداً جديدة عن فترة تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد منذ تنحى مبارك فى 11 فبراير 2011، وحتى تسليم السلطة «للرئيس المنتخب»، وكذلك عن حجم الأعباء الملقاة على عاتق الجيش منذ تسلّم الأخير مهام المنصب، وحتى ثورة الشعب عليه فى 30 يونيو 2013 وحتى الآن، وذلك فى مواجهة سرقة الإخوان للثورة والضغوط الأمريكية، ثم فى مواجهة السياسات والإجراءات التنفيذية للمؤامرة، مما جعل أولوية المجلس تحقيق هدفين هما: الحفاظ على وحدة الجيش والحفاظ على وحدة البلاد فى ظل أوضاع التزم الجيش إزاءها أقصى درجات ضبط النفس.. مَن منا لا يتذكر الكلمات والحركات الاستفزازية فى الشوارع والميادين لضباط وجنود الجيش، وصك «الإخوان» شعارى «يسقط حكم العسكر» و«الشعب يريد إعدام المشير»، ورفع أعلام تنظيمات إرهابية (القاعدة والجهاد والإخوان) وأناشيدها مقابل علم مصر ونشيد «بلادى.. بلادى»، والتهليل لما سمى ب«حركة ضباط مارس.. وأبريل» ومحاولة استثمارها إعلامياً للترويج لانشقاقات مزعومة.. تلك المحاولات التى استمرت بعد عزل «مرسى» بترويج كذبة انشقاق الفريق أحمد وصفى قائد الجيش الثانى الميدانى، والتصريح بإنشاء ما يُسمى ب«الجيش المصرى الحر» بدعم قطرى - تركى، كأحد سيناريوهات هدم الدولة. ونجح المجلس فى عبور هذه المرحلة وتحقيق أهدافه فيها.. وحدة الجيش والبلد.. بأقل قدر من التكلفة والخسائر فى ظل ضغوط خارجية أقل قسوة من ظروف داخلية سمحت خلالها قوى سياسية وثورية للأمريكان والإخوان بأن يخطفوا ثورة 25 يناير وأن يحدّدوا لها مساراً ينتهى بأن يقبض الإخوان على مصر. مع بداية حكم «مرسى» بدا للشعب سريعاً أنه يدفع ثمناً باهظاً للاختيارات الخاطئة من قبل قواه السياسية والثورية (التى تداعت حركة وراء حركة وحزباً خلف حزب، وشخصاً تلو شخص) نتيجة سياسات وممارسات الجماعة ومندوبها الرئاسى، حيث بدأت عملية استرداد الثورة، فذهبت الهتافات فى الميادين إلى مكانها الصحيح.. «يسقط حكم المرشد»، وأحرقت أعلام تركيا وقطر وأمريكا وإسرائيل فى إشارة إلى انكشاف المؤامرة الخارجية «وأصابعها» المحلية.. وكانت حركة «تمرد» واصطف الشعب بشكل تلقائى وبجيناته الوراثية الضاربة فى عمق التاريخ تحت راية وحدته وقدسية ترابه الوطنى التى عملت وتعمل القوات المسلحة على الحفاظ عليهما، وهى تستكمل لياقتها وعنفوانها؛ والتقى الشعب وجيشه مرة أخرى بعدما أيقن الشعب هذه المرة -مستفيداً من درس «عرابى»- أن المؤامرة على الجيش هى مؤامرة على الدولة والثورة، والعكس صحيح، ورفع راية «الشعب والجيش إيد واحدة». لكن المحاولات لضرب الجيش لم تتوقف، فالصفعة التى تلقتها المؤامرة الإخوانية كانت بالقوة التى أصابت الجماعة وحلفاءها بصدمة عنيفة نتيجة ضياع «الحلم» بعدما أوهمهم النجاح فى خطف الثورة واعتلاء منصب الرئيس والتغلغل داخل مؤسسات الدولة بأن البلاد فى يدهم. إجهاض هذه المحاولات يستدعى إقرار الخطوة الأولى فى موعدها، حسب خريطة الطريق، ألا وهى الدستور بالالتزام كأول استحقاقات ما بعد الثالث من يوليو 2013، والسير بخطوات واثقة نحو بناء مؤسسات الدولة وطرح المرشح الأول للرئاسة -الذى يحظى بشعبية لم تمنح من قبل سوى ل«عبدالناصر»- رؤية وطنية شاملة للمستقبل تتحدد فيها التحديات والانحيازات بشكل واضح فى بناء الدولة الوطنية المدنية.