التاريخ شرف للأمم، كما أن النسب شرف للبشر. وإذا كان النسب لا يباع ولا يوهب ولا يقبل الإسقاط أو التنازل فكذلك تاريخ الأمم. ويرتبط التاريخ بالحدث الأخير حتى يأتى ما هو أحدث منه؛ لاعتزاز كل جيل بعرقه وكفاحه وتقديم نجاحه على نجاح آبائه بحكم الفطرة، كما أخرج البخارى عن عبدالله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: «فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر». هكذا يفرح الإنسان باسمه وماله وعمله وعطائه أكثر ما يفرح بما ورثه من ذلك. وهو إن ظل مديناً لفضل الماضى لكنه يأبى أن يقدم نفسه إلا بحاضره ومستقبله. هذه سنة الله الكونية، حتى على أهل مصر التى عاشت تاريخاً طويلاً يسبق فى التوثيق كل بلاد الدنيا؛ لأنها ستظل ولادة للتاريخ حتى نهاية الدنيا، فهى التى خلدها الله تعالى فى كتابه فجعلها محفوظة بحفظه؛ لقوله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر: 9). كما كتب الله لأهل مصر مثل ما كتب لأهل الحرم من الأمن والأمان، فقال تعالى، على لسان يوسف لأبويه: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» (يوسف: 99). وقال تعالى عن حرم مكة: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (العنكبوت: 67). يذكر المصريون فى تاريخهم حضارة الفراعنة المتعددة الأسر والطبقات بالعلم والفن، كما يذكرون دخول المسيحية وتاريخ القبط بالمحبة والسلام، ويستبشرون بالفتح الإسلامى رمزاً للعدل والتسامح، ويعتزون بانتصاراتهم المتلاحقة على أعدائهم، حتى وقفوا عند انتصار أكتوبر المجيد سنة 1973م؛ لأنه آخر الانتصارات العسكرية وأقواها فى التاريخ المعاصر، ولأنه السلاح الذى أرغم الأعداء على أن يجنحوا للسلم وأن يردوا للمصريين أرضهم المغتصبة فى سنة 1967م. فنشأ جيل مصرى جديد لا يعرف إلا الحرية والكرامة والعزة والنصر بفضل الله ثم بفضل رجال أكتوبر الخالدين، الذين ضحوا بأنفسهم من أجلنا، وكأن الله تعالى يخاطبهم بقوله: «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ. وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» (الأحزاب: 23). ويأبى الله تعالى إلا أن يتم النعمة على الخالدين فى أكتوبر 73، بأن خلد أبناءهم البكريين بعد أربعين سنة فى يونيو 2013، عندما انحازوا للضعفاء من الشعب وأنقذوهم من حكم الفاشية أو التسلط السياسى باسم الدين، فحقق الله بهم قوله سبحانه: «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ» (القصص: 5-6). وتمضى الأيام وكل المصريين يعمل على شاكلته، فأكثرهم يمتن لأصحاب فضل النصر على الأعداء، وأصحاب فضل الإنقاذ من الاستعباد باسم الدين؛ عملاً بما أخرجه أبوداود والترمذى بإسناد صحيح، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». وبعضهم ينكر لصاحب الفضل فضله حسداً من عند أنفسهم بما يستنكره القرآن الكريم فى قوله سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ» (النساء: 54). والحاسد لا يعادى المحسود فقط، وإنما يعادى الله عز وجل؛ لأن الحاسد ينكر على الله تعالى عطيته ونعمته للمحسود، فلا يتورع أن يتخذ من أسلحة الخراب والدمار والفساد ما أمكنه؛ لأنه غير باكٍ على أحد، ولو كان ذلك الأحد هو الله تعالى. كما أنه يعد فساده إصلاحاً؛ لقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ» (البقرة: 11-12). وكما قال تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (الكهف: 103-104). ولما كانت عداوة الحاسد متعدية إلى الله تعالى، فقد حكم الله عليه فى الدنيا بأشد أنواع العقوبات، تبعاً لدرجة هذا التعدى، فقال سبحانه: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا. وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (المائدة: 33). وهذا يؤكد أن الحاسد المعادى للناس أسوأ قبحاً من الجاهل الأحمق الذى اكتفى القرآن الكريم بطلب الإعراض عنه، فقال سبحانه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف: 199). وسيبقى جنود الله أعزاء يفرحون من نصر إلى نصر، حتى لو تواطأ الحاسدون مع الجاهلين؛ لقوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» (الصافات: 171-173).