سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«منعم» أول من رفع علم مصر بعد النكسة يعمل سائق «ميكروباص» محافظة السويس طردته من منزله فى أواخر الثمانينات بسبب عدم دفع الإيجار.. فقرر العمل سائق لتوفير قوت أولاده
ليلة ممطرة فى شتاء 1943، داخل شارع صغير بكفر شميس، بحى الأربعين فى السويس، كانت «فاطمة سعيد» تضع صغيرها عبدالمنعم، لكن القدر لم يمهله إلا أسبوعا وغادر الحياة، بعد عامين وتحديدا فى 21 فبراير 1945 كان المنزل ذاته يستقبل مولودا جديدا يحمل الاسم نفسه «عبدالمنعم قناوى». الوطنية عرفت طريقها للصبى الصغير مبكرا، فلم يكن قد عرج إلى عامه ال 12 حتى شهدت مدن القنال العدوان الثلاثى فى أكتوبر 1956، لم يسع «عبدالمنعم» حينها إلا أن يصنع رشاشا آليا من الخشب، ويقف إلى جوار رجال المقاومة الشعبية على تبات الرمال والأسمنت بالشوارع الرئيسية بالسويس، لذا كان بديهيا أن يضحى الطفل بطلا للجمهورية فى الرماية وهو لم يزل طالبا فى الإعدادية، غير أن هواية أخرى ظهرت على السطح «كنت بحب المراسلة وطوابع البريد وكان ليَّا أصحاب فى دول كتير».. مع بدايات المرحلة الثانوية كان حقا عليه أن يذهب إلى فلسطين، استقبله «صديق المراسلة» على رصيف القطار الذى وصل غزة، كان ذلك فى بدايات عام 1961، اتفق مع رفيقه أن يذهبا إلى الحدود المحتلة، وصلا إلى «بيت حانون» شمال قطاع غزة، فاستوقفته لافتة مدونة بثلاث لغات «العربية والإنجليزية والعبرية»: «ممنوع عبور هذا الخط للمدنيين غير المصرح لهم»، استشاط «قناوى» غضبا من هنا قرر طالب الثانوى أن له ثأرا مع الصهاينة لن يتركه. تمنى «قناوى» أن يدخل الكلية العسكرية للعلوم -الفنية العسكرية حاليا- فلم يسعفه مجموعه الذى لم يتجاوز 62%، لكنه قرر أن يعيد الثانوية العامة مرة أخرى، ابتغاء الوصول للمنال، وقتها كان جنود القوات المسلحة يمرون من شارع «الجيش» بمدينته فى اتجاه سيناء، فالحرب على الأبواب و«ناصر» يتوعد اليهود بهزيمة مدوية.. يقول قناوى «كنا بنطبل ونزمر للعساكر ونجيبلهم بمصروفنا سندوتشات». وكان يوم 5 يونيو صاعقة نزلت على رؤوس الأشهاد، راح «قناوى» وجدعان السويس يجمعون شتات الجنود المبعثرة فى الصحراء، و«قناوى» مذهول، غير أنه أدرك أن الحزن ليس حلا «إحنا ما حاربناش دى نكسة وأكيد هنعديها» حفز بها نفسه. أيام وقرر الشاب العشرينى أن يشترى الأمل، واثقا أن بلاده لن تُهزم وأن ما جرى سبب لتحقيق مراده من الأخذ بالثأر، لذا كان واحدا من فريق إسعاف المصابين بالمستشفى الميدانى ببور توفيق، وصار فى مقدمة صفوف المقاومة الشعبية من الشباب المسئول عن حماية المنشآت الحيوية، فكان «قناوى» عضوا فى «فرقة انتحارية»، مهمتها تمشيط القنال ليلا، مفضلا الوقوف فى فوهة الخطر حفاظا على مدينته وأهلها. كان «قناوى» و4 من أصدقائه «عبدالمنعم خالد وإبراهيم سليمان ومحمود عواد وأحمد عطيفى»، قد ذهبوا للمكتب التابع لحركة «فتح»، بجوار «سينما أوديون» بوسط البلد للانضمام للفدائيين الفلسطينيين، فى محاولة للهجوم على الإسرائيليين، وحين علمت المخابرات الحربية بالأمر استدعت كلا منهم على انفراد، فبرر قناوى الأمر بعبارة «عايزين ناخد تارنا»، فرد ضابط التحقيق التحية بأفضل منها: «عندك استعداد تموت؟». تدريبات على حمل السلاح وزرع الألغام، رصد لمواقع مخازن السلاح والوقود، هكذا ظل الحال لأيام، كان الدور الأبرز ل«قناوى» فيها هو تسلق نخلة والاستقرار فوقها 12 ساعة كاملة -من شروق الشمس لغروبها- مستخدما نظارته المُكبرة لمراقبة تحركات العدو، وبينما يسمعون يوميا حركة دؤوباً على الجانب الآخر وتطاردهم الأضواء، قرر محمود عواد ومصطفى هاشم أن يسبحا للضفة الشرقية من القنال، حيث قوات الاحتلال، فكانت المفاجأة، صوت الحركة المستمر مسجل عبر مكبرات صوت، والإضاءة لكشافات مثبتة على أحجار، ليعودا بالخبر اليقين، كان ذلك بعد منتصف ليل الثلاثاء 4 نوفمبر 1969.. يقول القائد حسين دراز ل«قناوى» وأصدقائه «عندنا عملية النهارده استعدوا»، أحضر لهم وجبة كباب، ويعلق مبتسما «ممكن تكون آخر أكلة فى حياتنا»، قبل أن تعود الجدية على ملامح وجهه «كنا مستنيين الصبح يطلع كأننا عيال صغيرة ليلة العيد». «وضح النهار» كان اسم العملية، 12 شخصا عبروا القنال ووصلوا إلى الضفة الأخرى مع دقات الثامنة إلا الربع صباحا، يمسك «قناوى» بندقية آلية كعضو مجموعة مكونة من 3 جنود، ينجحون فى قتل 8 عناصر إسرائيلية بينهم ضابط، فيما كان الأهم هو رفع العلم المصرى على الأرض المحتلة لأول مرة منذ النكسة، حتى صار هناك جندى تقتصر مسئوليته على مراقبة العلم من على الضفة المقابلة، وقنص من يقترب منه، ليظل مرفرفا على أرض العدو، فى إشارة إلى اقتراب النصر. توقف إطلاق النيران، حسب اتفاقية «روجرز»، فى أغسطس 1970، لكن التدريب لم يتوقف، استمر الأمر شهورا، حتى جاء الطلب من قيادة المخابرات بتجهيز شخص ذى مواصفات مميزة «غير متزوج، يجيد التصوير، رياضى، نحيف، ملامحه تشبه بدو سيناء»، فوقع الاختيار على «قناوى»، المهمة ملاحظة مدخل ممر «متلا» وهو ممر طويل متعرج، طوله 32 كم فى سيناء، ليظل «قناوى» يراقب الأمر وهو ينصت لرسائل الموجة الثانية للإذاعة المصرية -المذاعة باللغة الإنجليزية- فى انتظار نطق الكود الخاص به «875».. بدأ المهمة فى 14 سبتمبر 1973، عبر قارب مطاطى، حتى وصل للضفة الشرقية، ويراقب الممر يوميا ويرسل شفراته عبر جهاز لاسلكى، حتى طالعه صباح العاشر من رمضان بخبر غريب «نجحت قواتنا المسلحة فى عبور قناة السويس على طول خط المواجهة من بور توفيق فى الجنوب حتى رأس العش فى الشمال»، ظن أنها خدعة، هرع سريعا نحو الراديو يقلب فى محطاته ليجد الخبر مدويا فى أنحاء الأرض، هاله منظر الطيران المصرى محلقا فوقه، سجد شكرا، فيما استعاد هدوءه، فهو لم يزل تحت وطأة مهمة استمرت حتى صباح يوم 15 أكتوبر، الحرب دائرة وابن السويس توجه صوب مكتب المخابرات الحربية بالقاهرة ينقل ملاحظاته، لكن فى اليوم التالى كان العدو قد تمكن من استغلال «ثغرة الدفرسوار»، فكانت مهمة الشاب العشرينى الأهم. «استطلاع قوات العدو التى حاصرت السويس مع بداية الثغرة»، أعلى جبل عتاقة استقر «قناوى» برفقة دليل سيناوى، يتابع بعين الخبير تحركات الصهاينة، لكن فجأة تحولت مهمة الأيام إلى أسابيع، لتتخطى شهورا، يتغذى على أعشاب نابتة بين الأحجار بفعل المطر، يستلقى على بطنه كى يلعق حبات الندى المستقرة بين الفتحات المجوفة فى الصخور.. «101» يوم قضاها «قناوى» فى المكان ذاته، أنقذ خلالها العديد من الجنود التائهين فى الصحراء، علاوة على بطولته فى إنقاذ قيادة الجيش الثالث من الهلاك، بعدما رصد 5 من جنود العدو متمركزين داخل مخبأ، يعلو نقطة حصينة للجيش المصرى، ليحمى الفدائى الصغير جيشه من هزيمة مُنكرة. «البطل مطرود من منزله»، هكذا كان الحال فى أواخر الثمانينات، حين قررت محافظة السويس أن تُخلى منزله بسبب عدم دفعه للإيجار، غير أن توسط أهل السويس لدى المحافظ الجديد. فى بدايات عام 1985 أيقن عم «قناوى» أن إهمال الدولة لرجالها طقس عادى، لذا قرر أن يستقل سيارة ميكروباص تمكنه من مواكبة الصراع فى معترك الحياة، قبل أن تهتك قواه السنون، ليكتفى بمجرد نقل مجموعة من الأطفال للمدرسة صباحا، ويعيدهم إلى منازلهم عقب انتهاء اليوم الدراسى.