هناك إجماع من كل المراقبين للمشهد السياسى فى مصر الآن على أنه مرتبك ارتباكاً شديداً، بحيث تعقدت الخيوط الناظمة له بصورة تجعل الانتقال الآمن إلى المرحلة الأخيرة من الفترة الانتقالية مسألة غير مؤكدة. ويثور فى هذا الصدد السؤال التقليدى: من هو المسئول عن هذا المشهد المرتبك، وعن التعثر الذى شهدته مسيرة المرحلة الانتقالية منذ تنحى الرئيس السابق وبعد الانتصار الحاسم لثورة 25 يناير فى إسقاط النظام؟ ستبادر بعض الائتلافات الثورية والأحزاب التقليدية أو الجديدة وبعض الناشطين السياسيين شيوخاً أو كهولاً أو شباباً بالقول الأكيد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو المسئول! وستبادر القوى الليبرالية واليسارية وبعض الائتلافات الثورية بالقول أن جماعة الإخوان المسلمين فى صفقتها التى عقدتها مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة ثم من بعد الانتخابات سعيها المحموم للاستحواذ على مجمل الفضاء السياسى المصرى هى المسئولة. وسيبادر بعض شباب الثوار ممن لا يترددون فى ممارسة النقد الذاتى بالقول أنهم هم المسئولون فى الواقع، لأنه بعد سقوط النظام تشرذموا وتحولوا إلى مئات الائتلافات الثورية، مما سمح للقوى السياسية التقليدية، وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، بالقفز على قطار الثورة المندفع، والظفر بأكثرية عضوية مجلسى الشعب والشورى مع حزب النور السلفى. ولكننى لو طرحت هذا السؤال الرئيسى على نفسى لأجبت إجابة غير تقليدية، وقلت إن خيانة المثقفين على اختلاف أطيافهم السياسية هى السبب الحقيقى فى هذا المشهد السياسى المرتبك الذى نمر به! وأنا فى هذا المجال أحب أن أعود بين الحين والآخر فى مجال عقد مسئولية المثقفين عن التطوير الإيجابى لمجتمعاتهم إلى المفكر الفرنسى المعروف «جوليان بندا» الذى نشر فى الثلاثينات كتاباً شهيراً بعنوان «خيانة المثقفين»! وفى هذا الكتاب ميّز «بندا» بين الكتّاب والكتبة. أما الكتّاب فهم هؤلاء المثقفون الذين يدركون تمام الإدراك أن المسئولية الأولى التى تقع على عاتق المثقف هى ممارسة النقد الاجتماعى المسئول الذى لا يكتفى -كما قرر «جان بول سارتر» فى كتابه «نقد العقل الجدلى»- بكشف الأخطاء وإبراز السلبيات، وإنما بإعطائها التكييف الصحيح. أما الكتبة فهم هؤلاء المثقفون المنافقون الذين قد يمارسون النفاق للسلطة فيصبحون مبررين للسلطة وقد يمارسون نفاق الجماهير ويغضون الطرف عن سلوكياتها حتى لو جنحت إلى الفوضى باسم الثورة، أو إلى التخريب باسم تحقيق المساواة! ولو طبقنا هذه التفرقة بين «الكتّاب والكتبة» لأدركنا أن عدداً كبيراً من المثقفين تخلوا عن دور الكتاب وقاموا بأدوار الكتبة للأسف الشديد! وهناك مؤشرات حاسمة تدل على ذلك. ولنبدأ أولاً بدور هؤلاء «الكتبة» فى نفاق الجماهير بمسايرة المظاهرات الفئوية الغوغائية التى تبالغ فى رفع المطالب غير القانونية وغير المعقولة باعتبارها حقوقاً مشروعة، ويجبنون عن مصارحة المتظاهرين بالحقائق حتى لو أغلقوا المصانع وأوقفوا الإنتاج وقطعوا الطرق! ومن الأدلة الدامغة كذلك الجبن عن ممارسة النقد الذاتى والاعتراف بالأخطاء، وإلقاء كل المسئولية فى تعثر المرحلة الانتقالية على عاتق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تحت الشعار الشهير «يسقط حكم العسكر»! ولنطرح مجرد سؤال عن مسئولية صياغة قانون الانتخاب الذى أدى إلى بطلان مجلس الشعب. ألم تمارس مختلف الأحزاب السياسية وفى مقدمتها حزب الحرية والعدالة الإخوانى الضغوط الشديدة على المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى يغير النص الذى كان يقضى بعدم جواز ترشح أعضاء الأحزاب السياسية فى الدوائر الفردية احتراماً لتكافؤ الفرصة أمام المستقلين؟ وبعد ذلك حين حكمت المحكمة الدستورية العليا بإبطال مجلس الشعب ترى جماعى الإخوان المسلمين فى مقدمة من يحمّلون المجلس الأعلى للقوات المسلحة المسئولية! ويرتبط بخيانة المثقفين نزول أعضاء جماعة الإخوان المسلمين إلى ميدان التحرير قبل إعلان فوز الدكتور «مرسى» بالرئاسة من باب ترويع اللجنة العليا للانتخابات، ودفعها دفعاً إلى إصدار قرار فوز «مرسى»، أو لممارسة الإرهاب العلنى لو أُعلن فوز «أحمد شفيق»! أوليس التظاهر فى الميدان ومهاجمة القضاء ورفع شعارات لتطهيره، والتى يسهم فيها للأسف الشديد مستشار سابق للنقض كافأته جماعة الإخوان المسلمين بإعطائه منصب رئيس اللجنة التشريعية، أليس ذلك يعد من سبيل خيانة المثقفين، والتى تبدو فى محاولة هدم إحدى مؤسسات الدولة؟ وأخيراً فإن خيانة المثقفين تبدو فى أقبح صورها فى مشهد زحف مجموعات من أبرز الوجوه الليبرالية إلى الدكتور «محمد مرسى»، تأييداً له قبل إعلان فوزه الرسمى! وهكذا تحول هؤلاء بدون سابق إنذار وهم من أشد أنصار الدولة المدنية، لكى يؤيدوا على الملأ مرشحاً رئاسياً يعد بكل المعايير مرشح الدولة الدينية! لا مجال لهروب المثقفين من مسئوليتهم عن المشهد السياسى المرتبك الراهن!