ما أشبه الليلة بالبارحة، هذا ما يمكن أن يوصف به مصير مكتب الإرشاد بالمقطم، الذى لم يختلف كثيراً عن المصير المعلق للمقر الرئيسى للحزب الوطنى المنحل. الحريق الذى تعرض له المبنى حوله إلى كتلة خرسانية متفحمة، وطوابق مهجورة، وزجاج مهشم ونوافذ محطمة وبقايا أجهزة تكييف. بين عشية وضحاها اقتحم مئات مقر مكتب الإرشاد، بعد ساعات من الاشتباكات وتبادل إطلاق نار مع مسلحين كانوا بداخله، وجرت محاولات تفجير بوابات المقر المنيعة، ما أسفر عن سقوط 11 قتيلا، جرى قنصهم برصاص حى، مصدره فتحات نوافذ علوية بمقر المكتب، الذى أصبح مزارا مهجورا صباح 1 يوليو الماضى، فى مشهد يحاكى نفس مشهد مقر الحزب الوطنى المنحل بعد احتراقه، إبان أحداث ثورة 25 يناير، مع اختلاف طفيف هو أن «الوطنى» صدر بحقه قرار قضائى بحله فى حين جاء قرار حل «الإرشاد» شعبياً. جيران مقر مكتب الإرشاد يقولون إنهم تضرروا هم وأبناؤهم نفسياً منذ حل الإخوان فى شارع 10، التابع لحى المقطم. الاشتباكات المتتابعة خلخلت الهدوء الذى كان يسود الشارع. فى الجهة المقابلة للمبنى، وتحت ظل شجرة يجلس رجل مباحث تابع لقسم شرطة المقطم، يراقب المقر المتفحم، ويمنع تسلل البلطجية إليه، حرصا على عدم سرقة محتوياته، «لأن الحاجات دى مش بتاعتهم دى بتاعة الدولة»، على حد قول أمين الشرطة، ويضيف رجل المباحث الأربعينى، ذو الملامح السمراء، الذى رفض ذكر اسمه، قائلا: «لم يأت أى أحد من قيادات الإخوان إلى المبنى منذ اقتحامه واحتراقه، وقامت النيابة العامة بجرد محتويات المبنى عقب إشعال النيران به فى أحداث 30 يونيو، ونتناوب على حراسته، رغم غلق بواباته الحديدية التى لم تتأثر بالحريق، وتفجير أنابيب البوتاجاز فيها». بعد فترة قصيرة من الوقت يسمع رجل الشرطة صوت دقات داخل المبنى، فيترجل ويطوف حوله، محاولا الوصول لمصدر الصوت. يلتقى رجل المباحث ببواب أحد العمارات المجاورة لمبنى مكتب الإرشاد الخلفية، فيطمئنه البواب قائلا: «الهوا بيفتح الأبواب وبتخبط كدا على طول إنما مفيش حد فوق، الناس اللى فى العمارة اللى قصادنا جابوا لحام وقفلوا البوابة عشان الحرامية كانوا بيدخلوا يسرقوا أجهزة من جوا ومعدش فيه حد بيعرف يدخل أو يخرج من 3 أسابيع». فرد عليه الأمين قائلا «لو حصل حاجة أو فيه حد حاول يدخل بلغونا». عاد «الأمين» إلى مكانه أمام بوابة مبنى مكتب الإرشاد، ثم قال: «محدش من الإخوان بقى يقدر ييجى هنا دلوقتى، والبوابة دى مش عارف مين اللى قفلها، بس محدش بيقدر يفتحها، فيه عربية جوا وشاشات تليفزيون ونجف وحاجات غالية كتير». فى إحدى العمارات المجاورة للمقر، جلس المحاسب معتز رمضان مع زوجته وابنتيه، فى شقته الهادئة. يقول معتز: «من وقت ما الإخوان أخدوا المقر وأهلى مرعوبين، وللأسف كنت بكدب على بناتى فى كل أحداث العنف اللى فاتت، خوفاً من أن يتضرروا نفسياً أو يصابوا بالذعر، وفى يوم 30 يونيو أخدتهم ورحنا عند جماعة قرايبنا لحد ما الأحداث تهدأ، ولما كنا خارج البيت، تابعنا أحداث حرق المقر واقتحامه وإطلاق النار على من فيه، وبنتى اللى عمرها 6 سنوات كانت واخدة بالها إن المكان ده عند بيتنا، وأنا كنت بحاول أقنعها إنه مش عندنا وإنه مبنى مشابه له مش أكتر، علشان متخافش، لكن بمجرد رجوعنا البيت فى اليوم التالى البنت اكتشفت إنى كنت بكدب عليها وإن المقر اللى شافته بيتحرق فى التليفزيون هو المبنى المجاور لمنزلنا وطبعاً ده أصابها بالفزع». فى صباح الثلاثين من يونيو، أول أيام التظاهر ضد حكم الإخوان، قرر معتز الانتقال مع زوجته إلى شقة أحد أقربائه، تاركاً شقته الموجودة بالمنزل المجاور لمقر جماعة الإخوان، كان ذلك بعدما توقع المحاسب الشاب أن أمراً كارثياً على وشك الحدوث. يقول معتز «قبلها بأيام كنت شايف شكاير الرمل وهما بيحطوها على نوافذ الأدوار العلوية، وكان فيه ناس واقفة باستمرار ورا الشكاير، واضح إنهم متأهبين ومترقبين وواخدين تعليمات بالتعامل، وتأكد لى بعد ما رجعت أنهم كانوا قناصة مسلحين، لأنى لما رجعت لقيت دم قتيل عند مدخل العمارة اللى أنا ساكن فيها وأجزاء من مخه، ده بعد ما قناصة الإخوان هربوا، وقتها تصديت لمسح الدم بنفسى خوفاً من فزع بناتى». ويتابع معتز: «وجود المقر فى المنطقة من البدايات وإحنا عارفين كويس أوى أنه هيعود علينا بمشكلات كتير، وكان فيه حملة جمع توقيعات من أهالى المنطقة علشان يتم إنهاء وجود مقر جماعة الإخوان المسلمين فى الشارع، وكان واضح أنه هيكون مصدر إزعاج علينا وأولادنا لأنها جماعة كانت محظورة، ولهم اتصالات بناس فى الخارج وكان فيه مواكب لشخصيات أجنبية بييجوا، منهم إسماعيل هنية وخالد مشعل وغيرهم وكانت الاجتماعات مستمرة». إحساس «معتز» بالكارثة الوشيكة، كما يصفها، دفعه للتفكير فى تعليق لافتة على واجهة شقته، تؤكد أن المبنى الذى يسكنه مبنى سكنى به أطفال ولا يتبع لمقر الإخوان. يقول المحاسب «المشكلة إن المبنى اللى أنا ساكن فيه روح العمارة فيه قريبة من مبنى الإرشاد، والإعلام لما بيصور مقر الإرشاد بيصور بيتنا معاه، فالناس أحيانا بتعتقد أنه مبنى ملحق له، وده كان ممكن يسبب مصيبة لو حد فكر يقتحم البيت، وحارس العمارة قال إن ده كان هيحصل لولا أنه تصدى للى حاولوا اقتحام المبنى فى غيابنا وفهمهم إنه مبنى سكنى ليس له علاقة بالإخوان» يرفض «معتز» بشدة أن يستعيد الإخوان نشاطهم فى مقرهم المحترق المجاور للمبنى الذى يسكنه هو. «كفاية ما تعرضنا له من إيذاء نفسى وإحساس بالقلق المستمر بسبب مقرهم، ولو كان لدى الإخوان وازع دينى فعلا، فعليهم البحث عن مقرات بعيدة عنا حتى لا يُرَوّع بسببهم الآمنون، وإحنا معندناش استعداد نستحمل المهزلة دى تانى». ويتابع المحاسب الشاب أن اشتباكات 30 يونيو وأحداث قنص المتظاهرين من خلال نوافذ مكتب الإرشاد كادت تتسبب فى كارثة حقيقية لمنزل المهندس عزت سويلم، أحد جيران مكتب الإرشاد بشارع 10 فى المقطم. يقول المهندس الستينى «يوم 30 رحت عند بنتى فى شقتها القريبة من هنا، لأنى كنت حاسس من استعدادات الإخوان إن فيه مصيبة هتحصل، وأولادى من وقت ما الإخوان فتحوا مقرهم جنبى وهم بيرفضوا أقعد فى الشقة وقت أى اشتباكات أو مناوشات، ولما رجعت لقيت زجاج الشباك تم تكسيره بطوب، وفيه ستارة لولا ستر ربنا كانت هتولع فى الشقة كلها بسبب شمروخ دخل الشقة وناره مسكت فى الستارة حرقتها، بس الحمد لله، الستارة وقعت وكتمت نار الشمروخ». ويضيف: «كنت بتابع الأحداث من بيت بنتى وفجأة اتصل بى حارس العمارة وقال لى: إلحق يا حاج عزت شقتك كانت هتولع، بسرعة رحت أنا وابنى كان فى تانى يوم رحنا الشقة بس الحمد لله جت سليمة». ويقول «عزت»: «قبل وجود الإخوان فى شارع 10 كان الشارع هادئاً، لكنه ما لبث أن تحول إلى مركز إزعاج وضوضاء مستمرين، وقبل كده المقر كان فيلا مملوكة لرجل الأعمال كمال غنيم، وكان الشارع هادئ، لكن بعد ما الإخوان ملكوا المقر وبعد ما الدكتور محمد مرسى بقى رئيس الجمهورية والدنيا مهديتش، علشان كده لازم يشوفوا مقر تانى بعيد عن السكان اللى ملهمش ذنب». حريق المقر الرئيسى لجماعة الإخوان أعاد لأذهان الكثيرين مشهد إضرام النيران فى الحزب الوطنى الديمقراطى فى 2011، إبان ثورة 25 يناير. الاختلاف أن ثمة قناصة كانوا معتلين، وفقاً لشهود العيان، أدوار المقر العلوية، فضلاً عن كون التحصينات التى دشنها الإخوان جعلت بواباته المضادة للرصاص وجدرانه الخرسانة عصية على الاقتحام. فترى آثار تفجير أسطوانات البوتاجاز على الجدران والبوابات، فى حين لم يمسسها سوء. عاشت زينب أحمد، أحد جيران الإرشاد، ساعات من القلق أثناء محاولات اقتحام المقر «الشارع كان مليان إطارات وكاوتشات مولعة، ومكناش عارفين نفتح الشباك من ضرب الخرطوش، وضرب النار الحى بكثافة لحد 8.30 تانى يوم الصبح»، تحكى زينب. لزمت زينب بيتها مع ابنها وابنتها دون أن تسمح لكليهما بمغادرة المنزل أو فتح أى نوافذ طيلة وقت الاقتحام، خصوصاً أن أصوات «بلى الخرطوش» كانت واضحة وهى تصطدم بزجاج نافذتهم. وتقول «زينب» إن «وجود مقر الإخوان بجوار بيوتنا أو فى أى مكان آخر كارثة، وبالتالى السكان رافضين رجوع النشاط فى المقر، وحتى لو احنا تجاوزنا ووافقنا محدش هيرضى استعادتهم النشاط من الشعب، وعموما إحنا مش هنقدر نعيش فى خوف ورعب وإزعاج وانعدام أمن طول عمرنا وبالتالى رافضين استعادة المقر لنشاطه مرة تانية». على غرار ما حدث للحزب الوطنى المنحل تدعو جارة مكتب الإرشاد «زينب» الدولة لتسلُم مقرات الجماعة». لكن السيدة الأربعينية ترى أنه من الضرورى الاستفادة من المقر بشكل جدى، لا أن يكون مصيره كمصير الحزب الوطنى المنحل، الذى لم يتم تكهينه حتى تلك اللحظة، «ياريت الدولة تاخد المقر وتحوله لشىء مفيد، دار أيتام مثلاً أو مستشفى، حاجة الناس تستفيد بها» تقترح «زينب». محمد أحمد، حارس العقار المجاور لمقر الإرشاد، شاهد على اعتلاء «قناصة الإخوان» قمة المقر، بحسب ما يقول، حيث «قاموا باستهداف الشباب من على بعد وكانت الرصاصة الواحدة تكفى لسقوط المُستَهدف قتيلاً». يتابع محمد «البوابات كانت ضد الكسر ومش بتتفتح غير بالكهرباء من الداخل، لما القناصة هربوا تانى يوم الصبح ملحقوش يقفلوا المقر وراهم، فالناس قدرت تدخل من بوابة من البوابات». بقى المقر على حالة لا يُحسد أصحابه عليها، لم يبق داخل المقر كما يبدو من النوافذ سوى بعض الركام والطوب والرمال، حيث مزق وكسر مقتحمو المقر كل شىء بالداخل، حتى أجهزة التكييف والأسقف المعلقة، وألقوا بشكائر الرمال التى كان يحتمى خلفها القناصة، وبعض الجيران يتحدثون عن قنبلة تم العثور عليها فى الفناء الخلفى للمقر، ليكتمل بذلك الخوف الذى يعيش تحته سكان العقارات المجاورة لمكتب الإرشاد، وتزداد مطالباتهم بعدم استعادة النشاط فى المقر الذى أرهقهم لشهور طويلة.