عندما حملت حقيبتى على كتفى وشرعت فى السفر إليه انتابنى شىء من الخوف مشوب بالقلق، ومغلف بكثير من الحذر.. فمقصدى رجل قبل أن أقصده سمعت عنه الكثير مما يبدو أنه ترسب فى كوامن نفسى، وفى أعماق وجدانى ما أشعر منه وما لا أشعر.. سبط النبى، يكشف حقيقة ما يدور بخلدك.. يلهمك ويهاتفك ويخبرك بأشيائك التى حدثت فى زمان بعيد أو أشياء تقع لك فى زمان قريب، ويذهب إليك فى منامك وأنت تحلق فى فضاء العالم المجهول.. يوصلك إلى الله إذا كنت مريدا أو يعطيك من الدنيا إذا كنت ترغبها.. وقد يستمطر عليك لعنات الله إذا عاديته. يقصده من كل صوب وحدب حتى رجالات الدولة الكبار، ونجوم المجتمع وكواكبه، فنانون ورجال أعمال وقضاة وضباط وغيرهم، كنت أحمل بين جنباتى كل هذا ويزيد وأنا فى طريقى إلى الزقازيق موطن عمى الشيخ صالح أحمد الشافعى محمد محمد أبوخليل الكبير. عندما علم سائق التاكسى أن ساحة سيدى أبوخليل هى مقصدى تغير وجهه، وبدت عليه الرهبة التى لم يستطع أن يخفيها، أوصلنى من شارع خلفى، وقال لى اذهب مستقيما ثم خذ شمالا، وعندما هممت بإخراج النقود من جيبى أقسم بالله أنه لن يأخذ شيئا، ودفع محرك سيارته متعجلا وانطلق بسرعة خاطفة.. مشيت فى الاتجاه الموصوف فاعترضتنى خيمة تغلق الطريق قمت بفتح سترة منها، وما كدت أن أطأ بقدمى حتى اجتذبنى طوفان من البشر كانت هذه الخيمة وعاء له. تدافعت وتلاطمت وسط الكتل البشرية من كافة الأعمار والمستويات والأنواع من شباب وفتيات وأطفال وشيوخ، من يرتدى البذلة والكرافيت، ومن يرتدى السديرى والجلباب، ومن ترتدى الجينز والنظارة السوداء، ومن ترتدى الخمار والعباءة... خليط فسيفسائى يكثر بينهم فئة الشباب الريفيين والحضريين يرتدون ثياباً حديثة، وقليل منهم من ذوى اللحية والجلباب وكثيرات منهن يرتدين الملابس العصرية. كأنه لم يبق أحد فى الخارج.. الجميع هنا فى هذه الساحة فى انتظار إشراقة «ولى الله سبط النبى» الذى يترك فيلته الفاخرة فى أحد أحياء الزقازيق الراقية (القومية) ليأتى إلى منزل أجداده القديم فى حى «النحال» يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع ليمنح أحباءه فيضا من النفحات والنظرات الربانية التى اختصه الله بها. بعد إلقاء نظرتى الأولى على الحشد توجهت لأحد الحاضرين عشوائيا، وأخبرته بأننى أريد مقابلة سيدى الشيخ، فأشار باتجاه رجل يجلس على كرسى خيزران وقال بلا مبالاة: سيادة اللواء.. توجهت إلى سيادة اللواء فقام واجتذبنى ببعض الخشونة وبادرنى بالسؤال: من أنت وماذا تريد؟ قلت: أريد مقابلة الشيخ صالح، فقال: لماذا؟ قلت: أنا أحد محبيه، جئت للسلام عليه، ففاجأنى اللواء بسؤال: هل أنت صحفى؟ أجبت: نعم؟ فقام بالنداء على عدة أشخاص وأخبرهم بهويتى فما لبثوا أن أحاطوا بى وأخذونى إلى ركن بعيد وأمطرونى بوابل من الأسئلة... فجأة ظهر شخص ليقبض على معصمى وأخذنى إلى وسط الساحة وعرفنى بنفسه وأخبرنى بأن الشيخ -الذى لم يصل بعد- ألهمه بأن يأتى إلىّ فى هذا التوقيت ليأخذ بيدى إلى ساحته الربانية. فجأة ضجت الساحة بالتكبير والتهليل والزغاريد، وتدافعت الجموع نحو مدخل الساحة، والخبير منهم هرول نحو أبواب منزل الشيخ ليحجز مكانا يعطيه قصب سبق الدخول أولا، وكاد البعض أن يتساقط فى خضم التدافع الشديد الذى كان يقابله دفع بعنف من جانب حراس الشيخ الذين كانوا يحاولون شق طريق وسط الحشد وإخلاء محيط لسيارة الشيخ.. وبسرعة خاطفة اندفعت سيارة سوداء ملأت المكان المخلى، ولاح من أحد أبواب منزل الشيخ بجوار الساحة رجال يرتدون ثيابا بيضاء وقبعات ذات خيوط مشبوكة وبدأوا ينشدون. ظل الشيخ جالساً داخل سيارته يحفه بجانب الأناشيد والتكبير والصلاة على النبى مجموعة من السكارى فى حبه الذين يتمايلون مع وقع دفوف المنشدين التى تصدح فى أرجاء الساحة وتتلامس أجسامهم بجسم سيارة الشيخ فى خشوع وبكاء وهيام وجملة واحدة لا تفارق لسانهم: «بحبك يا عم».. وبعد أن تصببنا عرقا فتح باب السيارة لينزل منها الشيخ فى سرعة خاطفة ليدخل من أحد الأبواب الثلاثة لمنزله لتتعالى التكبيرات وتلوح الأيادى فى الهواء بلا هدف وتهتز الرؤوس بالنشوة، ويخرج البعض عن شعوره فيندفع باتجاه الشيخ بعشوائية وبلا جدوى.. بطل الحدث وخاطف الأبصار شاب فى أوائل الأربعين من العمر متوسط القامة يرتدى جلبابا أبيض وعباءة بيضاء. بعد دخول الشيخ بدأنا مشقة محاولة الدخول إليه فانتظمنا فى صفوف متفرقين على ثلاثة أبواب ضيقة لا يتعدى فتحة الباب 40 سنتيمترا يقف على كل منها أشخاص ذوو لياقة بدنية عالية يدفعون المتدافعين على البوابات... كان يقف أمامى وبجانبى وخلفى فى الصف رجالات قضاء وشرطة ورجال أعمال وفنانون مشهورون لم يعدموا وسيلة للدخول إلى الشيخ، فعندما كان يعرف حرس الشيخ أحدهم كان يومئ لحارس الباب ويقول «المستشار فلان» أو «فلان بيه»، لكن ذلك كان يكلفه أن يستطيع أن يصل إلى الباب شاقا طريقه وسط الجموع. كانت الفتيات تتساقط على الأبواب وهى تحاول الدخول مما أشعل مشادات كلامية بين المريدين المتدافعين وحراس الشيخ تطورت إلى مناوشات بالأيدى. كان السير وئيدا.. وكان يقف خلفى فى الصف مباشرة مطرب مصرى شهير، أدرت ظهرى للحديث معه، لكنى بمجرد أن ألقيت التحية عليه فوجئت بما لم يكن فى الحسبان.. رجل ضخم يضرب يده على كتفى ويقول فى هدوء: هل تريد الدخول؟ قلت: نعم. قال: أنا سأدخلك: تركت دورى فى الصف وذهبت وراءه، دخل بى فى مكان ووضع لى كرسيا، وقال: اجلس هنا ثم تركنى وذهب.. انتظرت كثيرا لكنه لم يأت.. توقعت أن هؤلاء لا يريدون دخولى وعندما شعرت بأن العيون قد غفلت عنى حاولت الدخول من باب آخر وأعدت الكرة من جديد. عندما اقتربت من الباب بعد مشقة فوجئت برجل آخر فعل معى كما فعل سالفه؛ علمت بعدها أنى مرصود من قبل رجالات الشيخ، وفى المرة الرابعة والأخيرة تدافعت فجاءنى رجل آخر فأخبرته أننى لن أخرج «ولو على جثتى» فجاء رجل وقال اتركه حتى ظهر أحد رجالات الدولة الكبار فأوسعوا له الطريق ليدخل على الشيخ فدخلت وراءه فاعترضنى الحارس بقوة فدفعنى ودفعته حتى استطعت الدخول.. فجأة لقيتنى أمام الشيخ وبجانبى داعيتى وملهمى الذى أرسله الشيخ لى والذى فوجئت به أمامى على غير توقعى. وفى مكان ذى أضواء خافتة، يسقط منها ضوء خافت على وجه الرجل الذى يجلس فى زاوية يقال عنها إن من دخلها لا بد مهتدٍ، تحوطها ستارة تفتح فى مواجهة القادم وتحدها أعتاب خشب تشبه الأعتاب التى توضع فى مدخل المساجد والزوايا ولا يدخلها إلا الشيخ، دخل رجل الدولة المهم وقبّل يد الشيخ، وكاد أن يقبّل أقدامه، ويبدو أنه كان يبكى، وفى لحظات مسك خليفة الشيخ بيدى ودفع بى فى اتجاه الزاوية فقام الرجل وقبلنى بحرارة قائلا بتكرار: «أهلا برائحة الحبايب»، خرج ملهمى يحدثنى بأننى لا بد لى قريب من أولياء الله الصالحين أو أننى منتسب لآل البيت؛ لأن هذه معنى جملة القطب لى «رائحة الحبايب». خرج الشيخ بعد «جلسة التسليم» إلى ساحة «جلسة الإلهام» فى البيت ذاته؛ حيث يجلس كملك على كرسى العرش وأمامه مريدوه يفترشون الأرض، ويقفون فى الخارج من كثرة الزحام.. وعندما بدأ القارئ فى قراءة سورة الفتح جاءنى «ملهمى» وقبض على يدى برفق، وقال: هذا لك أنت.. اسمع جيدا «إنا فتحنا لك فتحا مبينا»، ثم أخذنى للخارج وأخبرنى أن الشيخ يريدنى معه، قلت: هل أخبرك الشيخ بهذا؟ قال: نعم ألهمنى بهذا.. فقلت له: حدثنى عن الشيخ فأخذ يحدثنى عن أن الشيخ صالح ليس وليا كسائر الأولياء، وإنما هو قطبهم أجمعين، وأن «حضرته» وأنه عالم لدنّى، يلجأ إليه العلماء لكى يغترفوا من علمه، بل إن الشيخ الشعراوى كان يأتى إلى هنا لينهل من فيض علمه، وإن الشيخ الشعراوى كان يقول قبل كل جلسة تفسير «مدد يا عم الشيخ صالح»، ثم أهدانى صورة تجمع الشيخ صالح بالشيخ الشعراوى.. . وأكد لى الداعية أن الشيخ صالح تربية النبى (صلى الله عليه وسلم)، وهو الذى سماه، وهو الذى ابتعثه ليضىء للبشر طريقهم، وليجدد لهم دينهم وهو من يوصلك للجنة، وشرح لى الرجل معنى المدد والنظرة، ونصحنى أن أطلب مدد الشيخ فى كل عقبة تعترض طريقى وسيزيحها الله بشرط أن «تستشعر معنى المدد وأنت تطلبه...». وروى داعية الشيخ قصته التى أتت به من دمنهور إلى الزقازيق يبحث عن الشيخ صالح بعد أن ظل الشيخ يزوره فى المنام وهو لا يعرفه لمدة 6 سنوات يأتى له ليمسح على صدره فيصحو من نومه طاهرا نظيفا من درنه ومنشرحا صدره حتى جاءه فى منامه ذات يوم فسأله: من أنت؟ فقال: أنا ابن النبى صالح أحمد الشافعى، فعندما أفاق من نومه أخذ يسأل: هل هناك أحد بهذا الاسم فعرف أن هذا الرجل يقيم فى مدينة الزقازيق، وعندما دخل على الشيخ عرف أنه من كان يزوره فى منامه فجثا على ركبتيه، وأخذ يقبل يده وقدمه، فقال له الشيخ: الآن جئت فابق معنا. بينما كان داعية الشيخ يروى كانت جلسة الإلهام فى ذروتها، والمنشدون الملهمون يشتعلون بالحماسة، وعند فقرات معينة يقطع الداعية حديثه معى ويشير باتجاه مكبرات الصوت ليلفت انتباهى للفقرة التى يرسلها الشيخ صالح لى مثل: (غوث الوجود من احتمى بجانبه.. لا يعتريه الضيم أو يتقوقع). وظل الداعية على هذه الحالة معى ما يقرب الساعتين يخبرنى ترميزا بما يدور داخلى من شك أو من نية فى الكتابة عن الشيخ إلا أنه فى النهاية حذرنى من الكتابة عنه؛ لأنه استأذنه -عبر الإلهام- فى أن يسمح لى بالكتابة، لكن الشيخ لم يأذن لى؛ ولأن الشيخ لم يسمح فلا تكتب إذا لم ترد لنفسك ضرا لأنه «من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب»، ثم سمح لى الداعية بالرحيل بعد أن ألهمه الشيخ بذلك.