هذا شعب ليس له نظير فى العالم، فهو صانع الحضارات ومهد الرسالات، عرف التوحيد قبل ظهور الديانات السماوية، شعب صبور إلى أقصى درجة، ولكنه لا ينسى ولا يلين، شعب لا يعرف اليأس، ولكنه يتربص حتى تظن أنه مات وانقضى، ثم يهب من رقاده كالطود الشامخ وكالسيل الرهيب، جيناته ممتدة لآلاف السنين تنطوى على عزة وإباء وعزيمة لا تلين، كان المصريون القدماء يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولذلك ابتكروا أساليب تحنيط الموتى التى لا يعرف العالم أسرارها حتى الآن، وكانوا يضعون مع الرفاة كل الأدوات التى يمكن أن يستخدمها المتوفى حين يُبعث من جديد، فهو شعب خالد يؤمن بالخلود، ولعل هذا أحد الأسباب الكامنة وراء عظمة المصريين بظنهم الغافل نياماً وما هم بنيام، فهو «شعب لا يعرف المستحيلا ولا يرتضى بالخلود بديلاً، فهى بلاد مفتوحة كالسماء تضم الصديق وتمحو الدخيلا». قام هذا الشعب بثورة رائعة أبهرت العالم من فرط إبداعها وسلميتها، احتشد الملايين فى ميادين الحرية طوال ثمانية عشر يوماً يطالبون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وحين نجحت ثورتهم وتخلى الفرعون عن عرشه المكين اعتقد الثوار الأبرياء أن أهداف الثورة قد تحققت وأن الكرامة المسلوبة عادت إلى أصحابها فقاموا بتنظيف الشوارع وتجميل الميادين، ولم يكن هؤلاء الأبرياء يدركون أن من بينهم ثلة من المتربصين الفاشيين الذين اختطفوا الثورة من أصحابها الحقيقيين «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين»، لقد استخدم هؤلاء الماكرون خطة محكمة من أجل الاستيلاء على الدولة لصالح جماعة غير شرعية، جماعة متطرفة مارقة لا تدرك قيمة مصر والمصريين ولم تحسن معاملة المصريين، خلطت الدين بالسياسة واستخدمت الحق الذى يراد به باطل، واستغلت حاجة الفقراء أسوأ استغلال، ولعبت على وتر الدين باعتباره قيمة راسخة ومتأصلة فى نفوس المصريين، وتم الخلط بين المطلق والنسبى، فالدين مطلق والسياسة نسبية، الدين يعنى الخير والحب والتسامح والإيثار، بينما تنتهج السياسة أسلوب الغاية التى تبرر الوسيلة من أجل اعتلاء الحكم، لقد تم اختطاف الثورة، بل واختطاف مصر بالكامل، من جانب تيار سياسى متطرف لم يدرك قيمة المصريين أقصاهم وأفقرهم وأراد إخضاعهم للفكر الظلامى والارتداد بهم للعصور الوسطى، لم يعرف هؤلاء حجم مصر وقيمتها، لم يتصوروا أن فى مصر شبابا ناضجا ومتحضرا يبلغ ثلثى عدد السكان، هذا الشباب الواعد الناهض ابتكر حركة تمرد لكسر حاجز الخوف والإحباط الذى يعانيه الشعب الصبور من غطرسة سلطة فاشية طاغية ولكونه شعبا أبيّا لا يقبل الضيم ولا يستسلم لواقعه الأليم سارعت الجموع من جميع الفئات والطبقات بالتوقيع على استمارات تمرد وتجاوز عدد الاستمارات الموقعة 22 مليوناً، ثم جاء اليوم الموعود 30 يونيو الذى لن ينساه التاريخ حيث ضاقت الشوارع والميادين بما رحبت، خرجت الجماهير من جميع الأطياف معبرة عن رغبتها فى استرداد حريتها وتجاوزت الأعداد 20 مليوناً على الأقل فى مظهر رائع ومهيب أبهر العالم، اصطحبت زوجتى وأحفادى للمشاركة فى استرداد الحرية من مغتصبيها شارك الأحفاد فى مظاهرات الاتحادية وكان أكبرهم خمس سنوات وأصغرهم شهرا ونصف الشهر فقط، ولعله أصغر المتظاهرين، رأينا مصر السمحة المتسامحة، مصر التى لا تعرف التفرقة بين مسلم ومسيحى، بين رجل وامرأة، بين سنى وشيعى، بين غنى وفقير، استعاد المصريون ابتسامتهم العذبة بعد عبوس طويل، استطاع الشباب الرائع استعادة مصر لأهلها برونقها وتاريخها وحضارتها من أيدى العابثين المارقين، عادت الشرطة لأحضان الشعب بعد فراق طويل، وكان جيشنا الباسل عند العهد والوعد، هنيئاً لنا باستعادة مصرنا، وعلى الباغى تدور الدوائر. ياه.. وحشتينا يا مصر.