رحل الاحتلال الإنجليزى، وذهب الإقطاع، لكن مشهد الفلاحين الذين يروون أرضهم العطشانة بدماهم فى فيلم «الأرض» عاد من جديد فى قرى الدقهلية فى عهد الرئيس الإخوانى محمد مرسى. ورغم المظاهرات التى قام بها المزارعون أمام رئاسة مركز «تمى الأمديد» احتجاجاً على نقص مياه الرى، ثم التجمهر أمام المحافظة مع مزارعى مركز دكرنس، وقطع الطريق الرئيسى بالمنصورة، لكن شيئاً لم يتغير؛ فلا تزال الترع الرئيسية والفرعية جافة من المياه، ومعها استمرت معاناة الفلاحين فى «تمى الأمديد»، بقرى: الربع والبيضاء وتاج العز وكفر الأمير وكفر ابن سلام، وغيرها من القرى التى تعتمد على ترعة البوهية فى الزراعة. «الوطن» زارت قرى شمال وجنوب الدقهلية، ورصدت معاناة الفلاحين، خصوصاً مركزى تمى الأمديد ودكرنس، من نقص مياه الرى الذى يهدد بجفاف محاصيلهم وبالتالى خراب بيوتهم. لم تمنع حرارة الشمس المزارعين فى قرية الربع بتمى الأمديد من مواصلة البحث عن نقطة مياه يروون بها أراضيهم التى جفت، ولم ينقص ظلام الليل من عزيمتهم فى مواصلة البحث عنها وانتظارها بترعة الشون. «إحنا قاعدين نايمين عند الأرض، لأنها كل حياتنا ومن غيرها ما نقدرش نعيش»، هكذا يقول عم فريد عبدالوهاب، بأعوامه ال75، التقيناه خلال رحلته اليومية إلى مصرف البيضاء، استقل مع ابنه عربة كارو، وحملا عليها «موتور» يستخدمونه فى شفط المياه من قاع ترعة الشون إلى «مشتل الأرز». «كل يوم بنروح المشوار المهبب دا، والناموس بياكلنا بالليل على المصرف اللى الريحة بتاعته فظيعة»، قالها الرجل المسن بغضب، ثم ينظر إلى الفراغ ويصمت ثوانى قليلة، ويكمل: «فيه ناس بتروح بمكنها ترفع ميه من المصرف وتصرفه فى الترعة، واحنا بناخد من الميه دى نروى المشاتل عشان كدا الزرعة بايظة.. هذا هو الحل الوحيد أمامنا وإلا سنموت كما يموت الزرع». يتوقف عن السير لمدة دقائق ثم ينحرف بنا إلى أرض زراعية تقع بجوار ترعة الشون، ويشير إليها من بعيد، وخلال السير يكمل حديثه: «كل البلاد اللى هنا بتعانى من نفس المشكلة، ومفيش مصدر تانى للميه غير مصرف المجارى». توقف بنا الرجل المسن أمام أرض سوداء لا زرع بها ولا ماء، تم حرثها للتو، يظهر من بين ذرات التراب نبات أخضر صغير، اقترب منه الرجل، أشار إليه وقال: «الأرض دى انزرعت رز بدارى من شهر، وبسبب انقطاع المياه عن الترعة باظ الرز واضطر الراجل الغلبان صاحبها يحرتها تانى عشان يزرعها»، وأكمل: «دا طن الرز التقاوى بألفين ونص، يرضى مين ده يا ناس؟»، ثم تابع: «الفلاحين الغلابة دول مين هيغيتهم بس؟ رحنا وقفنا قدام مجلس المدينة، رئيس المركز سابنا وهرب، طلعنا على المحافظة وقطعنا الطريق، والمحافظ قال هنفتح الميه، فتحوها يوم وقطعت تانى.. بيضحكوا علينا». يلتفت قليلا ثم يشير بيده ويقول: «كل الأراضى اللى انت شايفها دى باظت من قلة الميه السنة دى، وكيل وزارة الرى قال لنا قبل ما يهرب مش هاقدر أعمل لكم حاجة، اطلعوا على الرئيس مرسى. هو الرئيس فاضى ييجى يحل المشكلة بتاعتنا؟ هو هيعمل إيه ولّا إيه؟». صلاح شريف، مزارع بقرية تاج العز، يقول: «حاولنا التغلب على مشكلة نقص المياه بترعة الشون، وقمنا بحفر آبار إرتوازية، واكتشفنا بعد الانتهاء منها عدم صلاحيتها للزراعة لأنها تحتوى على نسبة ملوحة عالية، عشان كدا حرثنا الأرض تانى، بعد ما زرعناها بالرز»، وتابع: «الميه كانت مرطرطة فى الترعة وقت فطام القمح، ولما جينا نعمل الرز اختفت من شهرين». فى شمال المحافظة لم يختلف الوضع كثيراً، حيث تعددت الخسائر والسبب واحد، ففى مركز دكرنس قام الفلاحون بتجهيز مئات الأفدنة للزراعة، لكن بعد جفاف الترع ونقص المياه لا تزال الأراضى سوداء، هذا هو حال منطقة الربيعات التى تحتوى على 65 قرية وتابع، يزرع بها ما يزيد على 50 ألف فدان، ولم تصل إليهم مياه الرى لزراعة أراضيهم هذا العام، ومن تمكن من الفلاحين وزرع أرضه مبكرا بمحصول الأرز ماتت من العطش وأصبحت خسارته خسارتين. «مفيش ميه نسقى الأرض، ولا ميه للبهائم، ومرسى قال هنشيل فلوس بنك التنمية وما شالهاش، ولا سابنا نزرع الأرض»، ويستطرد: «أدى عهد مرسى، جزمتك يا مبارك على دماغى»، هكذا قال محمد أحمد سلامة، من قرية الألف الوسطانى بالربيعة مركز دكرنسبالدقهلية، داخل أرضه التى أصابها الجفاف لعدم وجود المياه منذ 20 يوماً. وتابع سلامة: «ترعة (أم شلبى) أكبر ترعة بالمنطقة، ناشفة وبننزل فيها بجزمنا، يا ريت المسئولين ييجوا يشوفوا بنفسهم اللى احنا فيه». إلى الطرق الزراعية والمدقات الترابية خرج الفلاحون من بيوتهم بأعداد كبيرة يشكون من انعدام مياه الرى وسط إلحاح شديد منهم على معاينة أراضيهم على الطبيعة، تشققت الأراضى الخضراء المزروعة بالأرز بسبب الجفاف. فى قرية «الدواغرة» وقف شاب ثلاثينى اسمه محمد عبدالرحمن وسط أرضه، وشق ملابسه حزناً على أرضه التى جهزها للزراعة ولم يجد لها المياه التى تزرعها. وقال منفعلاً: «حرثت الأرض وقمت بتجهيزها للزراعة، ومن قلة المياه ماعرفتش أعمل مشتل، ولما اتخنقنا رحنا مديرية الرى بالمنصورة ومفيش حد قابلنا ولا سمع لنا، فقمنا طالعين على المحافظة وقطعنا الطريق عشان الناس تسمعنا»، يكمل الشاب حديثه: «بعد إغلاق الطريق حضر إلينا لواء وأقنعنا بفتح الطريق، ووعدنا بوصول الميه لينا وبرضو الميه ماجتش». تجاذب أطراف الحديث معه بكر سماحة، مهندس زراعى من قرية وديع، وقال: «ترعة أم شلبى طولها 35 كيلو، تروى 50 ألف فدان، ومغلقة من المنبع أمام ميزانية ميت فارس، وذلك من أجل توفير المياه لمحطة معالجة المياه». سماحة أشار إلى عدم تشغيل محطة الرفع التى تم إنشاؤها منذ 5 سنوات على بحر حادوس، وتكلفت مليونى جنيه، ما يعد إهداراً صريحاً للمال العام، ولو تم تشغيلها ستكفى مساحة كبيرة من الأراضى بهذه المنطقة. نسيم الحديدى، رجل خمسينى لديه 7 أبناء ويزرع 12 قيراطاً، قال: «رغم تعودنا على الرى بمياه الصرف كل عام، فإننا لا نجدها هذا العام، حتى مياه الصرف حرمونا منها، رضينا بالهم والهم مش راضى بينا. وعندما وصلتنا المياه (المالحة)، يقصد مياه المصرف، من 20 يوم رويت بيها فحرقت الزرع و(شاط) والنباتات احمرت ومحتاج أزرعها مرة تانية بتكاليف جديدة». وأضاف: «فدان الأرض بيتكلف حرث وجاز وكيماوى وتقاوى ألف جنيه. لو يشعر المسئولون كيف نوفر هذا المبلغ لما جلس واحد فيهم على مكتبه حتى يوفر لنا المياه». وقال على سليمان، فلاح: «إحنا أول ناس بندفع ضرائب وتكاليف صرف مغطى، وفى المقابل لا نحصل على أى خدمات، ولو حصلت حريقة فى أى بيت لا نستطيع إطفاءها لعدم وجود المياه. ونناشد كل مسئول عن الرى أن يأتى ويرى بنفسه على الطبيعة الناس عايشة هنا إزاى، الرحمة اتنزعت من بيننا وبيوتنا اتخربت». فى قرية الدواغرة أيضاً طالب المزارع عبدالغنى محمد، رئيس الجمهورية بزيارة القرية ليصلى بهم صلاة الاستسقاء عسى أن ينزل المطر، وتابع: «عندما جاء الرئيس إلى الحكم وعدنا بعهد عمر بن الخطاب، لكن احنا هنا مش لاقيين شربة ميه، فأين العدل؟ وأين العدالة الاجتماعية التى طالبت بها الثورة؟ فقد كنا فى الأعوام الماضية نشتكى من قلة المياه ولكنها كانت موجودة أما الآن فهى غير موجودة بالمرة». وأضاف: «الفلاح هو عمود الدولة، وإذا انكسر توقف الإنتاج، معظم فلاحين القرية مصابين حالياً بالفشل الكلوى والفشل الكبدى، ونحن لا نجد ثمن العلاج، إحنا بنموت انقذنا». من جانبه يقول نسيم البلاسى، نقيب الفلاحين بالدقهلية: «لا تتجاوز مساحة القطن 10 آلاف فدان، وهو ما حذرت منه قبل بداية الموسم، وحذرت اللواء صلاح الدين المعداوى محافظ الدقهلية قبل الموسم»، وأضاف أنه لو وضعت الوزارة خطة لموسم الصيف لما وقعنا فى كل تلك المشاكل التى نعانى منها حالياً. فى نهاية الجولة بقرى مركز دكرنس، قال لنا مهندس رى، رفض نشر اسمه، إن «كميات المياه هذا العام قليلة جدا بالمقارنة بالعام الماضى، الذى زادت فيه حصة الدقهلية بنسبة 20% نتيجة إقبال الفلاحين على زراعة الأرز». أخبار متعلقة: "الوطن" ترصد خريطة"شقوق الظمأ"في 5 محافظات أراضى استصلحها «ناصر» وقتلتها «النهضة» "البوار" يهدد 30 قرية .. والكهرباء السبب الشرقية..المزارعون: "بيوتنا هتتخرب" عطش يخنق الأرض .. وشقوق تتسع