لا يوجد كتاب على وجه الأرض كرّم «المسيح وأمه العذراء البتول مريم» مثل القرآن، فهذه سورة كاملة فى القرآن اسمها «مريم» يتعبد المسلمون بتلاوتها ويقرأونها فى صلواتهم، ويتبارى المفسرون فى شرحها وبسط معانيها. لقد أثنى القرآن مراراً وتكراراً على كل أسرة المسيح وهم «آل عمران»، وسُميت سورة كاملة باسم هذه الأسرة الكريمة وهى سورة «آل عمران»، وعمران هو جد المسيح وكان من العابدين والزاهدين، وذكر أيضاً قصة زكريا عليه السلام وهو الذى كفل مريم بعد موت أبيها «عمران»، وذكر قصة يحيى «يوحنا المعمدان» وهو ابن خالة المسيح. هذه الأسرة الكريمة الصالحة احتفى القرآن بها أيما احتفاء، وساق قصة بذلها وكفاحها وعطائها، فقد حورب وطُرد المسيح حتى رفعه الله إليه وأنجاه من كيد الكائدين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، واتُهمت مريم العذراء البتول بأبشع الاتهامات التى ردها القرآن فى دفاعه الرائع عنها. وللمسيح وآل عمران مكانة رفيعة فى قلوب المسلمين جميعاً، فمريم هى المرأة الوحيدة التى ذكرها القرآن بالاسم، ودونها من النساء لم يذكرهن القرآن بالاسم، وعرض قصصهن دون ذكر الاسم مثل المرأة التى ظاهر منها زوجها وتشتكى إلى الله، ومثل زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم اللائى أغضبنه، ومثل امرأة فرعون التى دعت «رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ». كما أن كل مسلم يؤمن بأن المسيح بن مريم من الخمسة أولى العزم من الرسل، وهم صفوة الرسل وهم: إبراهيم ونوح، وعيسى، وموسى، ومحمد. وقد ذكر القرآن كل معجزات المسيح بالتفصيل، وقصة المائدة وذلك فى سورة المائدة، وقصة الحواريين، بل إن القرآن ذكر قصة النصارى المؤمنين المضطهدين فى قصة «أصحاب الأخدود» ودافع عنهم دفاعاً مجيداً وانحاز إلى الطائفة المؤمنة ضد خصومهم من الملحدين والوثنيين، وخلّد قصتهم على مر الأزمان، ولولا هذا الذكر والتكريم ما عرفت الأجيال المتعاقبة قصتهم ولا اعتبرت بسيرتهم. أما رسول الإسلام محمد فقد احتفى بالمسيح «عليهما السلام» أيما احتفاء وفيه من الحب والإكرام ما فيه، فها هو الرسول يحكى عن قصة المعراج قائلاً: «رأيت رجلاً أدم سبط الشعر يهادى بين رجلين وكأن رأسه يقطر ماء فقلت من هذا؟: قالوا: هذا أخوك ابن مريم»، وها هو يدافع عن المسيح دفاعاً حاراً فيقول: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فى الدنيا والآخرة، فليس بينى وبينه نبى». ويحث أتباعه على الإيمان به كشرط لدخول الجنة «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة». ويبشر بنزول عيسى بن مريم فى آخر الزمان ويقول: «كيف تهلك أمة أنا فى أولها وأخى عيسى فى آخرها؟!»، ويشبّه أبا ذر بالمسيح مادحاً فيقول: «مثلك يا أبا ذر فى أصحابى كمثل المسيح بن مريم بين الناس». أما المسيح بن مريم فقد بشّر بقدوم النبى أحمد كما قال القرآن «ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ»، وقد لقبته التوراة بعدة ألقاب منها: المعزى، المسيا المنتظر، وأركون العالم، وروح الحق، والبارقليط الذى لا يتكلم من نفسه إنما يتكلم بما يقوله له الرب، وأنه يسوسهم بالحق ويخبرهم بالغيب، ويوبخ العالم على الخطيئة ويخلصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر، ورغّب الناس فى «المبارك الآتى باسم الله». ورغم أن الأناجيل كُتبت بعد عدة قرون من حياة المسيح فإنها احتوت على بشارة المسيح بمحمد عليهما السلام، ففى إنجيل متّى «أنا أعمدكم بالماء للتوبة والمغفرة ولكن هناك شخصاً مقبلاً بعدى وهو أقوى منى وسيعمدكم بالروح والنار». وفى متّى أيضاً: «إذا أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتى». وفى متّى «لماذا يقول الكتبة: إن إيلياء ينبغى أن يأتى أولاً؟ فأجاب وقال لهم: إن إيلياء يأتى ويرد كل شىء». سلام على الأنبياء، وسلام على محمد والمسيح، فقد بلَّغا الرسالة وأدَّيا الأمانة، ولكن الأتباع يحيدون عن رسالتيهما لتمتلئ الأرض ظلماً وبغياً ودماءً ومعصية. اللهم ارزقنا لقاء الأنبياء فى الجنة، ولقاء محمد وعيسى، يا رب قد كتبت عنهما كثيراً، اللهم لا تحرمنى من لقائهما فى الجنة بذنوبى وما أكثرها، اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.