فى أوائل شهر رمضان، ارتدى زيه العسكرى الخاص بالمجندين، واصطحب الشاب العشرينى ابن أخيه معه إلى استديو للتصوير الفوتوغرافى، كان طوال طريقهما إلى هناك يحادثه عن حبه للجيش على الرغم من صعوبة الحياة، يروى له كيف مر عليه ال19 شهراً فترة تجنيده فى الجيش، إلا أنه دائما ما كان يرى هذا الواجب شرفاً لأى رجل مصرى، نظر العم إلى الصغير، وطلب منه أن يرتدى زى ضابط جيش أحضره المصور للأطفال الذين يحبون ارتداءه أثناء التصوير، والتقط المصور صورة للصغير وحده، ثم طلب العم من ابن أخيه أن ينضم إليه فى صورة ثانية فوافق الصغير على الفور، وكيف لا وهو المدلل عنده، ليس فقط لأن اسمهما واحد، ولكن لأنه يحمل لوالده حباً كبيراً جعلهما ليسا مجرد شقيقين، بل صديقين قبل ذلك وبعده؟ ضم العم الطفل إلى صدره وأخذا صورة معاً، ولم يكن حينها أى منهما يعلم أنها ستعلق على حائط المنزل بجوار لوحة من مدرسة بقرية تيرة مركز نبروه بمحافظة الدقهلية تخلد اسم الشهيد حامد عبدالعاطى كواحد من ال16 مجنداً الذين استشهدوا فى رمضان الماضى على حدود سيناء. يتذكر الحاج عبدالعاطى تفاصيل الأيام الأخيرة التى قضاها الابن فى بيت أسرته قبل أن تنتهى إجازته ويعود مرة أخرى لاستكمال ما تبقى له من شهور فى الجيش، بل إنها أيام لا تفارق مخيلته؛ فها هو يجلس أمامهم يطلب منهم أن يتركوا له مساحة ليصنع لهم فطيراً شهياً قبل أن يسافر، فيما تحاول الأم أن تثنيه عن ذلك وتطلب منه أن يذهب للنوم قليلا حتى يستريح جسده، لكنه يعاود الإلحاح فى طلبه، ويصنع الفطير. أما الأم فلا تكاد تصدق أنه ذهب، ولن يعود إلى أحضانها مرة أخرى، لن يطلب منها المحشى الذى يحبه من يديها فقط، لن يربت على كتفيها ويقبل جبهتها إذا ما صادف ورآها حزينة، لن يلقى عليها النكات، ولن تملأ ضحكاته أركان المنزل، ولن يفرح بعروسه التى كان من المفترض أن يتزوجها بعد 18 يوماً فقط، «فكيف إذن لن يعود؟!»، هكذا تتساءل الأم المكلومة. «كان طفلاً وديعاً يحب الحياة، لم يطلب منى شيئاً أبداً، بل إننى كنت ألح عليه أن يطلب منى شيئاً، ولكنه كان دائما ما يقول: أنا عندى كل حاجة يا ابا ومش محتاج أى حاجة. وكأنه كان يريد أن يقول لى: ما تتعبش نفسك معايا، أنا مش هطوّل معاكم فى الدنيا»، هكذا يتذكر الأب ابنه طفلاً. أما الأم فتصفه بالنسيم، بل إنها تتذكر له جيداً كيف كان طفلاً مطيعاً يحبه جميع أفراد العائلة حباً استثنائياً، وكيف أنه على عكس إخوته وأقرانه فى العائلة فضّل أن يلتحق بمدرسة أزهرية حتى يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان ينوى السفر للعمل فى الخارج بعد أن حصل على دبلوم السياحة والفنادق حتى يستطيع أن يساعد أسرته فى النفقات. «كان خازن أسرارى الأمين»، هكذا يتحدث شقيقه عبدالعزيز، متابعاً: «على الرغم من أنه الأصغر، لكننى كنت ألجأ إليه دائما لاتخاذ القرارات المصيرية فى حياتى، بل إنه من شجعنى حتى أحصل على تقدير عالٍ فى المعهد، ودفعنى إلى الالتحاق بكلية التجارة ولم يكن أحد فى المنزل يعلم بهذا الأمر غيره، وعندما كان يحصل على إجازة من الجيش كنت أجده أمامى فى الأرض ليساعدنى، فأقول له: روّح انت أكيد تعبان ومهدود، فيبتسم فى وجهى قائلا: وينفع أسيبك لوحدك برضه؟ إيد على إيد تساعد». لم يعلم أى من أفراد أسرة الشهيد حامد عبدالعاطى بخبر استشهاده فى يومه، بل إن الجميع رفضوا أن يعلموهم بالخبر خوفاً عليهم، ولكن الأم كانت تشعر أن مكروهاً ما أصاب فلذة كبدها، وتروى تفاصيل المجزرة: «حسيت إن قلبى مقبوض، وإنى عاوزة أشوف حامد قدامى، بقينا نسأل الكل ومحدش بيرد علينا، واتصلنا بيه على الموبايل لقيناه مقفول، أنا من جوايا كنت حاسة إنه خلاص راح، لكن مش قادرة أنطقها لحد ما وصلنا الخبر». «وكأنه كان يشعر أنه لن يرانا مرة أخرى، فلأول مرة نجده يقبل يدينا قبل أن يسافر، وكلما وصل إلى باب المنزل عاد مرة أخرى ووقف دون أن ينطق ببنت شفة»، هكذا يقول الحاج عبدالعاطى. أما الأم المكلومة فتتذكر يوم جنازته المهيبة وتقول: «كنت كلما سمعت صرخات أو عويل القريبات أو الجارات، أطلب منهن أن يتوقفن وأقول لهن: هذا عريس يزف إلى الجنة فلا تصرخن عليه. وقلبى لن يهدأ إلا بعد أن يصلوا إلى القتلة، وعلى القوات المسلحة أن تنتقم لأبنائها». وفى لقاء صلاح عبدالمقصود، وزير الإعلام، بأهالى شهداء رفح، الذى عقد أوائل الشهر الحالى، تكريماً لهم، قال الوزير فى كلمته: «لن يهدأ لنا بال حتى يقدم القتلة للعدالة وتطمئن القلوب المصرية»، لكن الحاج عبدالعاطى ومعه بعض أهالى الشهداء سألوا الوزير عن هذا الميعاد، فقال لهم إنه أتى اليوم لتكريمهم لا لشىء آخر، ويقول والد الشهيد: «عاوز أعرف مين اللى قتل ولادنا؟ ومين اللى غدر بيهم وخطفهم مننا؟! شوية يقولوا من حماس وشوية ينفوا وشوية يقولوا إنهم وصلوا للقتلة وشوية يسكتوا! إحنا مش قادرين نقول غير حسبى الله ونعم الوكيل». أخبار متعلقة: 263 يوماً.. و«لسه حقهم مارجعش» الساعات الأخيرة ل 16 شهيداً.. «حان وقت دخول الجنة» «حمادة».. الابن «البكرى» على 7 بنات «وليد».. «البهجة» التى غادرت قلب أسرته «إبراهيم».. «سند» العائلة الذى انكسر «بغدادى».. فى انتظار القصاص «حمدى».. «الموت» سبق «الكوشة» «محمد».. شهيد 21 رصاصة