رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الوطن» تحتفى بالذكرى الأولى ل«الحلم الجميل».. وبسطاء ومقربون يروون ذكرياتهم مع «البابا شنودة»
البابا قبل الرحيل:«كفاية كده.. يا رب متخدنيش وأنا عندى زهايمر»
نشر في الوطن يوم 17 - 03 - 2013

وكأنهم رفاق مسيرة واحدة، فالجميع يحبونه، يعرفونه عن قرب، كل واحد فيهم، يتذكر موقفاً شخصياً جمعه به، لا يختلف كثيراً شعور عم عزيز طباخه الدائم، عن شعور بولس الأنبا بيشوى، سكرتيره الخاص، فكلاهما يصفه ب«حبيب القلب».
ولا تختلف رسمات وجه عم جرجس المسئول عن بوابة المقر البابوى، والمعلم «إبراهيم عياد» تلميذه عن تلك النظرة التى بدت فى عينى امرأة خمسينية تسير فى جنبات الكاتدرائية مستندة على عكازات، مشيرة إلى أن اللحظة التى توقف عندها الزمن فى حياتها كانت بالوقوف فى صورة مع قداسة البابا، التقطها مصوره الخاص الذى يحمل أرشيفاً يحوى أكثر من مليون صورة. بعيداً عن دهاليز السياسة وعباءة الدين، فضلت «الوطن» أن تحيى الذكرى الأولى للرجل الذى كان «الوطن يعيش فيه».
على بعد أمتار من منزله فى حارة ضيقة، كانت خطوات الطالب فى الصف الثالث الثانوى تقوده إلى مستقبل جديد، فداخل كنيسة عذراء مهمشة بحى الشرابية الشعبى وجدهم يبكون، الجميع فى حالة هيستيرية، سأل وقتها الصبى عن السبب، فجاءته الإجابة: «البابا شنودة فى الدير.. محددين إقامته هناك»، وقتها قرر صاحب ال 18 عاماً أن يتعرف على ذلك الرجل الذى يكن له الجميع حباً جارفاً، فعكف على سماع شرائط لعظات البابا «قبل ما أسمعه كنت بقول هو الناس بتحبه كده ليه.. بس حسيت رغم سنى الصغيرة إنه قادر يجاوبنى على حاجات كتير بتدور فى عقلى».. فور عودة البابا من الدير قادماً إلى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية كان «عماد نصرى» واحداً من الآلاف المُصطفين للترحيب ب«شنودة» غير أن 70 متراً أعاقته للوصول إليه، شتّ عقله قبل أن تستقر عيناه على أقرب شخص إلى جوار البابا يحمل فى يده كاميرا، حينها فقط قرر أن يتعلم التصوير عازماً الجهد على أن يكون المصور الخاص للبابا وهو ما كان بعد 5 سنوات.
فى أحد الاجتماعات، اقترب «عماد» من البابا من أجل التقاط صورة، فأشار له أحد القساوسة بالابتعاد، قبل أن يقول «حاسب يا عمدة»، ليُعلق البابا شنودة بطرافة: «هو فيه عمدة هنا غيرى»، لتضج القاعة بالضحك.. موقف من مئات لا ينساها «عماد» الذى كان «الخال فاروق» هو السبيل الوحيد والمُنقذ من أجل أن يستعير منه كاميرا صغيرة تهدم المسافات بينه وبين «البابا»: «من أول يوم كنت أحب أبص فى وشه كتير.. كل التعبيرات اللى ممكن تكون فى وش إنسان موجودة فى وجه البابا شنودة.. لو كشر تخاف.. لو ابتسم يرفعك لسابع سما»، رقم يحمل إلى جواره 6 أصفار هى عدد الصور التى يؤكد «عماد» أنه التقطها للبابا، لم يخرج منها إلى النور سوى عدد محدود فى مجلة «الكرازة».
أكثر ما لفت انتباه الأنبا بيشوى لشخصية «نظير جيد» طوال السنوات التى عاش معه فيها خاتماً إياها بالعمل سكرتيراً له، هو حبه الشديد للأطفال، يُداعبهم ويحرص على إسعادهم مستشهداً بأن آخر جائزة نالها من ألمانيا تبرع بها بالكامل لمستشفى سرطان الأطفال -قيمتها 12 ألف يورو- ويتحدث «بيشوى» عن إنسانية الراحل بأنه لم يُكمل الدراسة فى كلية الطب عقب تخرجه فى الثانوية العامة مصمماً على التحويل لكلية الآداب بالقاهرة «مكنش يحب يشوف جروح الناس».. الوفاء هو الصفة الثانية التى يتذكرها سكرتيره فى الذكرى الأولى لوفاته مُعتبراً أن كلمات «شنودة» لأستاذه «حبيب جرجس» -مدير الكلية الأكليريكية بالقاهرة فى ذكرى الأربعين بمنظومة شعرية عميقة، قال فيها: «يا حكيماً أدب الناس وفى زجره حبُ وفى صوته عطفُ.. لك أسلوب نزيه طاهر ولسان أبيض الألفاظ عف».
الجميع رفضه إلا هو، لم يكن قد أكمل عامه الرابع عشر حينها، قادماً من بنى مزار بالمنيا راغباً فى تعلم الألحان الكنسية، وقتها كان الأنبا شنودة أسقفاً للتعليم وخلال مراحل الاختبار رجح جميع الأساقفة للصبى «إبراهيم عياد» العودة إلى بلدته على أن يأتى بعد سنوات لصغر سنه، فيما تشبث ببقائه الأنبا شنودة، بمجرد أن تلفظ لسان «إبراهيم» بأنشودة: «أيها الرب إله القوات» داخل أروقة الكنيسة حتى هفا قلبه لحب الألحان ومعها استقر حب «شنودة»، لتمر السنوات ويصبح التلميذ أستاذاً ومعلماً أكبر للشماسين، يقف خلف البابا شنودة فى صلواته مسئولاً عن تلاوة الترانيم.
دخلت السيدة الأربعينية إلى الكاتدرائية بالعباسية، اصطحبت معها فلذة كبدها «تامر»، داخل أحد الأبنية كانت قابعة، بينما كان البابا فى الأسانسير يستعد للنزول، فُتحت أبواب المصعد، فاتجه «تامر» مهرولاً، تبسم «البابا» فى وجهه: «إيه يا واد ده مش تستنى لما أنزل»، فيما جاءه الرد من والدته التى ارتسمت على وجهها ملامح البشاشة مختلطة بالخجل: «معلش يا سيدنا.. أصله تعبان شويه»، «كان ربنا فوق والبابا شنودة تحت» هكذا تصف «أم تامر» -الشاب العشرينى المريض النفسى- حالها مع البابا معتبرة أنه الشخص الوحيد الذى أوصل لها الشعور بأن مرض الابن عظة وبركة، فيما كانت تشعر بالأسى مع كل نظرة صوب ولدها وكأنه «عورة»، كذلك كان مجدى -عامل الكافيتريا فى الكلية الأكليريكية- لا يشعر بالحنو تحت وطأة عطفه حين ينعم عليهم بما يجود به كل أربعاء «ابتسامة منه كانت تكفينا وتشيل هموم الدنيا اللى جوانا».
«يارب ما تخدنيش وأنا عندى زهايمر».. كلمات قالها البابا شنودة بأنين مسموع، عقب خروجه من زيارة الأنبا «غورغيوس» -أسقف البحث العلمى-، الذى أصيب بداء النسيان، فرغم تدهور حالة البابا الصحية فى أواخر أيامه، كانت ذاكرته فولاذية، حسب «عماد نصرى» الذى يُشير إلى آخر اجتماع للبطريرك داخل «مقلاته الخاصة» -حيث مكان سكنه داخل الكاتدرائية- مع أعضاء المجمع المقدس مُذكراً إياهم بواجباتهم نحو شعب الكنيسة وموجهاً إليهم أسئلة تتعلق بأدق التفاصيل التى لم تغب عن ذاكرته.. قبل نحو أسبوع من رحيل البابا، أخبر الأطباء المشرفون على علاجه من مرض الفشل الكلوى بأن ذلك الداء اللعين له مراحل ثلاث، تبدأ ب «الغسيل المستمر»، يليها «ضعف فى المناعة» ثم أخيراً «الزهايمر».
كان لشقيق والدته «الأنبا يؤانس» الفضل فى تعرفه على البابا، لم يكن حينها سوى طفل صغير، يتذكر بشاشة ذلك الرجل الذى يطمئن على خاله فى رحلات علاجه المتعاقبة، غير أن نصف قرن حولت الدفة لتجعل من ذلك الصغير الذى تعلم على يديه قرض الشعر، أنيساً له، يتابع أحواله فى بلاد الغرب، داخل مستشفى «كليفلاند» بالولايات المتحدة الأمريكية نظر جرجس صالح - أستاذ العهد القديم بالكلية الإكليريكية- إلى وجه البابا المتعافى لتوه من وعكة مرضية مستغرباً من الصلابة البادية على رجل لم تهزه أمواج الأوجاع المتلاطمة «عيشته فى مغارة فى الجبل سنين طويلة علمته الشدة فى الأزمات»، كان البابا يفضل العلاج فى ذلك المشفى بعينه لوجود ملف طبى خاص به -حسب جرجس- الذى رافق البابا فى جميع سفرياته العلاجية مستشهداً بأن رحلة العلاج فى ألمانيا لم تكن موفقة بالشكل الكاف، لذا كان «كليفلاند» ملاذ البابا فى سنواته الأخيرة، عقب رحيل الأنبا يؤانس، ربت البابا شنودة على كتف «جرجس» مردداً كلماته التى لا ينساها: «كن قريباً منى»، سنوات مرت ليتدرج الشاب فى كنف «السيد» معيناً له حتى صار أميناً عاماً لمجلس كنائس الشرق الأوسط.
الجمع اكتمل، جلس الطلاب فى حضرة معلمهم «إبراهيم عياد» يفترشون الأرض، فيما توقف الطلاب عن التركيز مع مدرسهم للحظات حين لمحوا البابا شنودة يحمل كرسياً متوجهاً قبل تلميذه القديم «اقعد على الكرسى يا أستاذ إبراهيم، أنت مقامك جليل» يتذكرها «عياد» بعينين لامعتين مشيراً إلى تقدير البطريرك السابق للعلم وتواضعه الجم حتى فى حضرة الصغار، كان الشماس «عياد» ملازماً للبابا شنودة فى سفريات عدة، بعضها خارج القطر المصرى «كنت بروح معاه السودان وأريتريا وكمان ألمانيا» يعلو محيا الرجل الخمسينى ضحكة متذكراً لمحة كوميدية للبابا داخل الطائرة «فى سفرية كانت معانا طيارة مخصوص وكل يومين نروح مكان نحاضر فيه ساعتها البابا قاللى إحنا عاملين زى الصعيدى اللى شايل بؤجة وبيلف على رزقه».
من أقرب الشخصيات إلى قلبه علاوة على أنه حسب وصفه «ينتمى له بالجسد» بصلة قرابة لقداسة البابا كونه ابن شقيقه، «بطرس جيد» الذى خدم معه ككاهن، وساعده فى لجنة البر والمجلس الملى العام، كما كان مرافقاً له وبخاصة فى السنوات الأخيرة، غير أنه يقول: «إن درجة القرب والقرابة لم تجعل أحداً يشعر بأنه يفضلنى عن أى من أبناء شعبه»، لذا لم يكن مستغرباً أن تكون آخر وصاياه «الاعتناء بالفقراء وقضاء حاجاتهم».
كان أول قرارات البابا شنودة فور توليه المنصب هو إنشاء ما عرف بالخدمة الاجتماعية، ذلك القطاع الذى كان يشرف عليه بنفسه يوم الخميس من كل أسبوع فيما يعرف بلجنة «البر» يقول بطرس: «أى بنت محتاجة مساعدة فى الجواز وأى شاب مزنوق فى قرشين ولا راجل محتاج نصيحة مكنش يرد حد أبداً».
وبوجه شاحب، جلس «شنودة» على كرسى البابوية ليصلى بشعب الكنيسة آخر قداس له، كان ذلك فى السادس من يناير لعام 2012، لم يلفت يومها انتباه «جرجس صالح» تضرع المصلين غير أنه استمر فى ترقب وجه البابا المتغير «كنت حاسس إن دى آخر صلاة له»، يحكى الرجل بسنواته التى تجاوز الستين، عن تواضع الراحل حتى فى عنفوان المرض: «كان فيه ناس بتحاول تلبسه الحذاء.. لكن هوه كان بيرفض ده ويقول لهم (العفو يا ابنى)»، المرح وخفة الظل والمنظومات الشعرية التى كان يتمتع بها «البابا» هونت عليه المشقة وكبد الحياة: «كان دايماً أكتر شباب مننا بابتسامته».
دم يسيل بين طرفين، فى الأصل هم مصريون، وفى البطاقة مُفندون «مسلم - قبطى»، وحزن يكتنف ضلوع البابا شنودة، الوجه البشوش الذى اعتاده «المصورعماد» بات فى قمة الأسى، متألماً على أولاده من شعب الكنيسة: «أكتر مرة شفته زعلان فيها كان يوم حادثة الكشح.. ساعتها بص للسما وقال نرفع شكوانا للرب ونصمت لكى يتكلم الله»، فيما يبتسم مصور البابا عندما يتذكر كلماته عقب كل أزمة: «المشكلة عبارة عن مثلث.. بتطلع لحد ما تحس إن الدنيا اسودت.. وتنزل على مفيش».. فيما كانت أفضل اللقطات التى تحصدها كاميرا «عماد» تتمثل فى وجود طفل بالقرب من قداسة البابا: «اكتر ضحكة كنت بشوفها على وشه لما يتصور مع طفل رضيع».
يحكى «بطرس» بتأثر عن ذلك الموقف الذى لا تمحوه الأيام حين كان هناك شخص بسيط محتاج لمساعدة ولم توافقه الظروف أن يتقابل مع قداسة البابا، وحين قابله بعد سنوات وحكى للبابا الموقف، أمر على الفور بأن تعطى المساعدة التى كان يجب أن يأخذها منذ سنوات علاوة على تلبية أى مطلب له، فيما كانت أكثر الكلمات اللى يحفظها «ابن أخيه» عن ظهر قلب هى وصيته الأثيرة له: «لا تسمح للضيقة بأن تدخل إلى نفسك، ولا تجعل الضيقة بينك وبين الله».
«امتى هنرجع مصر» جملة لازمت لسان البابا فور ابتعاده عن «أم الدنيا» -حسب «نصرى»- الذى يؤكد على عادة البابا فى عدم تغيير عقارب ساعته على مواقيت البلاد الخارجية مُفضلاً أن يظل أحد متعلقاته مرتبطاً بمصر ولو على سبيل الرمز، مع كل عيد كان يتوجه مصور البابا صوب دير وادى النطرون حاملاً ولديه «بولا وكيريا»، اللذين عمدهما البابا شنودة بنفسه: «كنا بنقضى العيد معاه وكان بيلعب بنفسه مع الأولاد».
يُحبذ البعض أن يربط تفاصيل البابا بتاريخ «تنحيته» وحركة الكون، فقد كان ترتيبه بين البطاركة رقم «117»، فيما كانت وفاته مع دقات الساعة 17: 17، علاوة على أنه أشرف على تعميد 117 أسقفاً، بالإضافة إلى افتتاحه 17 كلية إكليريكية، يتذكر «عماد نصرى» أدب البابا: «مكنش بينادى على حد باسمه المجرد.. مهما كان صغيراً فى السن أو المقام يقوله يا أستاذ أو يا بيه أو حضرتك».. خريج كلية الفنون التطبيقية بالرغم من تفوقه بها، فإنه يحفظ كلمات «السيد» عن ظهر قلب: «مش كل مهندس ناجح.. لكن إنت مصور ناجح»، جملة غيرت حياة «عماد» من شخص يصفه بلغة المصور: «البابا شنودة ماستر ملهوش كوبى».
ربع ساعة ويحين الموعد، تدمع عين الرجل الذى قارب على التسعين من عمره، الألم يعتصره، فيما لا يزال وميض أمل يشع من عينيه، يجلس بجواره الأساقفة المقربون، الشموع تتلألأ داخل «مقلاته» لتُكسبها لوناً ذهبياً، بينما تشارف الشمس فى الخارج على الغروب، ينظر فى أعين مجاوريه بجسد أنهكه المرض، فيما يتشبثون هم بروحه المرحة منتظرين ابتسامة منه، لكنها لا ترتسم من فرط الألم، قبل أن يُثبت بصره نحو ذلك الصليب المعلق على أحد الجدران أمامه، يصمت للحظات قبل أن يقول بنبرة بالغة التأثر: «أنت تعلم يا رب أنى لم أعد أحتمل الألم بعد».
القلوب توقفت دقاتها والعيون سالت أنهاراً بغير إرادة والعقل كذب ما سمع، وقتها كان «إبراهيم عياد» منغمساً فى درس الألحان الكنسية بأحد أديرة الإسكندرية، رن هاتفه مشيراً إلى اسم ابنه «أنطون»، فتجهم وجهه فجأة فيما كان جوابه على الطلاب بهزة من رأسه تفيد بأن القدر قد قضى أمره.
يتذكر «المعلم إبراهيم» تفاصيل العظة الأخيرة للبابا شنودة حين اشتد عليه المرض طالباً منه التعجيل بالصلاة قبل أن يقول كلمته النهائية لشعب الكنيسة: «أنا كلمتكوا كتير.. كفاية كدة»، فيما مرت 10 أيام فقط لتنهى حياة الرجل الذى يقول عنه «المعلم إبراهيم» إن أيامه كانت بمثابة «الحلم الجميل».
وفى الوقت الذى كان يجهز فيه عماد نصرى الكاميرا الخاصة به ليلتقط صورة للبابا للمتوفى، دار برأسه كل تعبير لوجه البطريرك متوجهاً برأسه قبل السماء حالماً بأمنية لم تتحقق «كان نفسى أكون مكانه فى الصندوق وهو اللى يصلى عليا»، فيما لم تمنع سنوات «جرجس صالح» التى قاربت الستين من منعه بالبكاء كالأطفال على رحيل من حنا عليه طفلاً وصار فى كنفه حتى بات ينظر إليه على كرسى العرش الذى ظل قابعاً فوقه ثلاثة أيام «كنت حاسس إن سيدنا هيقوم يكلمنى.. كان شخصاً لا ينسى»، أما مجدى، فقد جحظت عيناه من الصدمة، قائلاً لرفاقه من بسطاء شعب الكنيسة: «زعلت عليه أكتر ما زعلت على أبويا»، فيما مر عام على الذكرى ما زالت «أم تامر» تقبض بيديها على مجموعة من البطاقات عليها صورة البابا شنودة تحت اسم «نظير جيد رفائيل» المولود فى 3 أغسطس 192، توزعها على الوافدين على الكاتدرائية.. «بطاقة البابا شنودة.. عشان البركة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.