■ ركب المصريون سفينة صغيرة وركب الأجانب سفينة أخرى للهجرة غير الشرعية، ولكن سماسرة الهجرة الحرام وتجار الموت ضنوا بالسفينتين على أكثر من 250 مهاجراً مصرياً وأجنبياً، فأجبروا المصريين على ركوب سفينة الأجانب الذين شعروا بقرب الكارثة فرفضوا ركوب المصريين، وبعد مشاجرات بين الفريقين رضى كل منهما بالهم والموت غرقاً. ■ ناءت السفينة بمن فيها فمالت فى الخامسة فجراً ثم غرقت بالكامل، لتغرق معها الأحلام الكاذبة، وتضيع أسر بكاملها، ويغرق أكثر من 250 إنساناً يفرون من أوطان لم تحترمهم أو تقدرهم ولا يدركون أحلاماً كاذبة وسراباً خادعاً، لم يستخرج من جثث هؤلاء سوى 176 جثة. ■ من يصدق أن سماسرة الموت جمعوا الملايين من هؤلاء وضنوا عليهم بكل شىء وقدموهم للموت غنيمة باردة. ■ مركب لا تتحمل ركوب 50 فرداً تحمل خمسة أضعاف هذا العدد لتغرق بعد 12 كيلومتراً فقط من الحدود، وفى عمق لا يزيد على تسعة أمتار، فماذا لو أبحرت فى الشتاء؟ وماذا لو دخلت فى عمق البحر المتوسط؟ وماذا.. وماذا.. ؟!. ■ هذه أول مرة تفر أسر بكاملها ويغامر الزوج بزوجته وأطفاله لسفر غير مشروع فى بحر متلاطم. ■ مئات الجثث تطفو على سطح المياه، جثث النساء والأطفال تطفو لأول مرة فى تاريخ الهجرة غير الشرعية فى مصر، الجثث فى كل مستشفيات البحيرة والإسكندرية ومطروح وكفر الشيخ، آلاف الأهالى فى كرب شديد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، بعضهم ينتظر جثة قريبه على الشاطئ، وبعضهم يطوف على ثلاجات الموتى فى المستشفيات، وبعضهم يبكى وينتحب أو يلطم خديه، ويزيد حزنهم وكمدهم ذلك الهجوم الإعلامى الكاسح على أولادهم غرقى السفينة وكأننا نريد جلدهم بعد موتهم وسلخهم بعد ذبحهم. ■ يا قوم ليس هذا وقت الهجوم على الغرقى، فلا يلقى أحد بنفسه فى الماء إلا إذا كان يعيش فى النار، إنه جرس إنذار للجميع، هناك خلل مجتمعى خطير ينبغى علاجه، علينا ألا نهرب من هذه الحقيقة، لقد ضاق الحال بالناس، فلا عمل ولا حياة كريمة ولا أمل ولا حريات حقيقية. ■ إنها أكبر كارثة إنسانية تحدث فى مصر الحديثة بعد كارثة عبّارة السلام وقطار الصعيد، إنه الموت غرقاً أو حرقاً، ومن هوله جعل الرسول «صلى الله عليه وسلم» أصحابه من الشهداء. ■ لقد تاجر أصحاب المركب وسماسرة الهجرة فى جماجم الناس، وصاروا أشبه ما يكونون ب«حفارى القبور». ■ لقد وُضع هؤلاء الغرقى بين مطرقة تجار الموت من جهة وبين سندان أولئك الذين قاموا بتسييس هذه المحنة الإنسانية، إما باستغلال الحدث للهجوم على الحكومة والدولة أو استغلاله للهجوم على الغرقى وأسرهم وتبييض صفحة الحكومة من كل مسئولية تجاه هؤلاء الغرقى. ■ لقد تاجر هؤلاء السماسرة بأحلام الشباب الكاذبة واستغلوا تطلعاتهم إلى الحياة الرغدة فى أوروبا دون تبصيرهم بمتاعبها ومصاعبها، وجمعوا الملايين من هؤلاء الفقراء وتجرأ بعض هؤلاء السماسرة جرأة غير معهودة، حيث كان لصاحب هذه السفينة صفحة على الفيس بوك يعلن فيها عن مشروعه الإجرامى ناشراً فيها صور الآلاف الذين سافروا من قبل عن طريقه، وكيف أصبح لكل منهم عمل ومستقبل فى إيطاليا وتم ذلك تحت سمع وبصر الجميع. ■ فالدولة المصرية لا تفيق عادة فى كل عصورها إلا على وقع الكوارث، وتكون إفاقتها مؤقتة وتعالج العرض دون المرض، وتعاقب أضعف الحلقات فى شبكات الفساد والإهمال والفوضى والرشوة. ■ لقد وصلت الحكومة متأخرة ل«مركب الموت» وأدركت حجم الكارثة متأخرة، وتظن الآن أن حل هذه المشكلة يكون بالقانون، وهذا خطأ، علينا أن نفكر لماذا لا يهاجر الأمريكى أو البريطانى أو الأسترالى أو الكندى من وطنه سواء بطريقة مشروعة أو غير مشروعة؟ لأنه يجد وطناً يرعاه ويحرره ولا يستعبده، يجد فيه العدل السياسى والاجتماعى، يمكن أن يقضى كل أموره دون رشوة أو محسوبية أو ذل وهوان، يجد أن لرأيه وصوته وكلمته قيمة، يجد تعليماً جيداً ومستشفى حكومياً يحترم آدميته. ■ فليس بالقانون وحده يحيا الإنسان، وليس به وحده تنهض المجتمعات فترسانة القوانين عندنا أكبر من قوانين الدول الأوروبية مجتمعة، ولكن حياتنا كلها تغلفها الفوضى فى كل شىء، وهى من صنع أيدينا، ونحن من أسبابها، والحكومة عليها جزء من المسئولية وعلينا أيضاً جزء منها، فأكثرنا فوضوى بطبعه يكره النظام والدقة والانضباط. ■ وفى الختام خالص العزاء لمصر عامة ولأسر الغرقى خاصة، وقد بشر رسول الله «صلى الله عليه وسلم» الغريق بأنه شهيد فى الحديث الشهير لما يلاقيه من أهوال جسام، والهول الأكبر هو الذى تعيشه أسرته حتى تجد جثته وتستمر آلامها بعد دفنه.