أُنشئت دار الإفتاء المصرية فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى سنة 1895م بهدف مساعدة القضاة الشرعيين فى معرفة الرأى الراجح فى المذهب الحنفى الذى تقرّر الاحتكام إليه فى النزاعات القضائية فى ربوع الدولة العثمانية، إذا لم يجد القاضى النص فى مجلة الأحكام العدلية التى تم إعدادها وفقاً لذلك. وكان أول من تولى الإفتاء فى مصر هو الشيخ حسونة النواوى، بالإضافة إلى مشيخته للأزهر، ثم صدر قرار الخديو بتعيين الشيخ محمد عبده مفتياً للديار المصرية سنة 1899م، واستمر حتى قدّم استقالته منها سنة 1905م، قُبيل وفاته بعدة أشهر. وكان سبب الاستقالة هو هجوم بعض علماء الأزهر عليه واتهامه بالخيانة للفقه الحنفى الذى عُيّن حارساً عليه بعد فتواه برأى مرجوح وتركه الرأى الراجح فى المذهب الحنفى، فى قضية زوجين من ترنسفال (إحدى المقاطعات بجنوب أفريقيا)، وكان قد رأى فى هذا الرأى المرجوح المناسبة والملاءمة لحال الزوجين وعُرف زمنهما، إلا أن المعارضين رأوا فى هذا انحرافاً عن أصل الوظيفة وخروجاً عن مقتضى الأمانة التى أُسنِدت إليه، وهى انحصار الفتوى على الرأى الراجح فى المذهب الحنفى. وانتقلت مصر نقلة حضارية بصدور الدستور الأول سنة 1923م، الذى تقرّر به العمل على تقنين القوانين وتسييدها فى المجتمع دون تفويض القاضى لاجتهاده وبحثه فى الفقه الحنفى واحتياجه إلى مفتى الديار لحسم المشكل أمامه، وتم ذلك بصدور قانون العقوبات، الذى هو بمثابة «التعازير» فى الفقه الإسلامى سنة 1937م، ثم القانون المدنى سنة 1949م، الذى استُنبط من شتى المذاهب الإسلامية، حسب المصلحة العامة. واكتفى بقصر الاستنباط على أرجح الأقوال فى المذهب الحنفى على قانون الأحوال الشخصية الصادر سنة 1920م. وبهذا يتضح أن دور دار الإفتاء المصرية لم يعد متسعاً للهدف الذى أُنشئت من أجله بادئ الأمر فى خدمة القضاء، إلا فى حكم الإعدام، وتحديد أول الشهر الهجرى، بل أصبح الناس يقصدون دار الإفتاء للبحث عن أقوال الفقهاء فى كل المذاهب المعتبَرة لمعرفة الأوجه الفقهية المشروعة فى العبادات والمعاملات والعلاقات الأسرية، ولا يعنيهم التعبُّد بمذهب بعينه، لأنهم يدركون أن تلك المذاهب عبارة عن مذاهب فقهية لدين واحد لا أديانٍ شتى. لذلك كان من الضرورى أن يتولى منصب الإفتاء أستاذ فى الفقه الإسلامى عاش طوال حياته العلمية يدرسه ويبحث فى مذاهبه المختلفة ويؤلف فى مسائله المعاصرة. وجامعات مصر مليئة بهؤلاء المتخصصين فى أقسام الفقه والفقه المقارن وأصول الفقه والشريعة الإسلامية، والذين يبلغ عددهم قرابة الخمسمائة فقيه. وقد أسفت لعدم معرفة الرأى العام المصرى لهذا العدد الكبير من فقهاء مصر فى الأيام القليلة الماضية عندما أعلنت هيئة كبار العلماء بحثها عن خليفة للأستاذ الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية، وهو الفقيه الأصولى المجدِّد لعهد محمد عبده. وأسفت مرة ثانية لعدم معرفة الرأى العام المصرى الفرق بين الفقهاء وغيرهم من علماء التفسير والحديث والعقيدة والدعوة، وكأن الجميع سواء فى تولى منصب الإفتاء. لقد أحسنتْ هيئة كبار العلماء عندما وقع اختيارها على فضيلة الأستاذ الدكتور شوقى إبراهيم عبدالكريم أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا، لتولى مسئولية الإفتاء فى مصر، لكونه أحد المتخصصين، ولتعريف الشعب المصرى ببعض فقهائه الذين لا يعرفهم الإعلام. ولعل هذه دعوة إلى ضرورة تكريم المجتمع لفقهائه وتسليط الإعلام الضوءَ عليهم، وجعل دار الإفتاء المصرية داراً للفقهاء المصريين؛ حتى يعلم المصريون أن بلدهم زاخر بالمئات من الفقهاء المتخصصين القادرين على تصحيح مسار الفتوى، وإعادة التكريم الإسلامى للإنسان بعد استيلاء غير المتخصصين على منابر الفتوى فى أوساط العوام، وما ترتب على ذلك من فساد وأمية دينية.