لا وجع يُضاهى وجع الضرس، ذلك الذى كان يؤلم ويؤرق نوم «أحمد حماد»، صاحب البشرة الخمرية، كان وقتها فى سوهاج حيث مولد نشأته، هرع إلى طبيب الأسنان للتخلص من ذلك الألم المزعج، فبادره الطبيب بالسؤال: «حضرتك شغال إيه»، ليُجيبه الشاب صاحب ال 33 عاماً: «عندى كُشك فى شارع محمد محمود»، نظر إليه المُعالج فى ذهول: «محمد محمود.. ربنا يعينك يا أستاذ».. أكثر من 15 عاماً كان يبلغ وقتها «حماد» أوائل العشرينات قدم من سوهاج إلى القاهرة لمساعدة أحد أخواله المُقيمين بالمحروسة والذى كان يمتلك أحد الأكشاك فى شارع محمد محمود، ذلك الشارع الذى ارتبط اسمه بأحداث يُفسرها أحد أطرافها بأنها ثورة ثانية، بينما يؤكد طرفها الثانى أنهم مجموعة من البلطجية والمجرمين، إلا أن تفسير «حماد» يُصبح ملكاً له: «كانت أيام سودا». عندما يأتى «الجمعة» من كل أسبوع، تخرج عينا «حماد» من حدقتيهما راقباً بعينيه المارة، وعقله فى انشغال دائم، مع تسارع فى نبضات القلب، فهو يخشى أن تتحول مليونيات التحرير فى نهاية كل أسبوع إلى مشاجرة يُصبح شارع «محمد محمود» مأوى لها: «الواحد بقى ملطشة سواء للجيش أو للشرطة أو حتى الثوار».. بعد مرور أكثر من عام بكامله على ذكرى الأحداث الدامية التى شهدها نفس الشارع، الشرارة التى لامست عقله بدأت عندما رأى اشتعال الأحداث على شاشات الفضائيات، ليهرع من بيته إلى موقع الحدث، ليس دفاعا عن الثوار ولا عن الشرطة ولكن لحماية «أكل عيشه»، ومنذ خرج من بيته لم يعد، حيث ظل بجوار «كُشكه» ثلاث ليال كاملة: «كنت هموت مرتين بسبب قنابل الغاز.. لا كنت عارف أتنفس ولا شايف أى حاجة». يجلس بين خردواته وبضائعه فى الكشك الذى يقع بمنتصف الشارع، وتليفونات زوجته تنهال عليه وقت رؤيتها لأى اشتباكات بالشارع «من صباحية ربنا وأنا بشتغل وكل ده عشان أوفر (لُقمة حلال) لولادى حمزة وحبيبة»، «حماد» الذى شارك فى الثورة منذ بدايتها وكان مؤيدا لسقوط «مبارك» وجهة نظره فى الثوار تغيرت 180 درجة، عقب تعرض محل «أكل عيشه» للتخريب مرة أخيرة على أيدى البلطجية بعد الاشتباكات التى أعقبت أحداث مجزرة بورسعيد، لكن الأسفلت القاسى للشارع لا ينضح إلا بالدم الذى سال: «فيه ناس راحت فى الرجلين بدون أى ذنب.. وأنا ضد الدم.. إيه ذنب العسكرى الغلبان اللى جاى من بلدهم وواقف خدمة عشان حكم النفس على النفس.. وإيه ذنب شاب مات بسبب خرطوش أو حتى دخان؟».. «يطرطق» صاحب البشرة الخمرية أذنيه وقت سماعه «سرينة الشرطة»: «بيحصلى حالة غريبة بتخنق ونفسى بيتكتم بقيت بتشائم من أى حاجة»، وإن كانت هناك كلمة تُلخص الأحداث من وجهة نظر «حماد» فهى «كابوس.. كنت حاسس إنى عايش فى الضلمة».. أيام قليلة وتجددت الاشتباكات فى ميدان التحرير فى الذكرى الثانية للثورة، فقرر الرجل الصعيدى غلق ضلف «محل رزقه» خوفاً من تدميره مرة أخرى. «الثقة» لفظ لا يكتسبه أطراف المواجهة سواء قوات الجيش أو الشرطة أو حتى الثوار بالنسبة ل«حماد»، فهو كاره للشرطة بسبب ما حدث يوم جمعة الغضب يوم 28 يناير، حيث قام العساكر بتحطيم «الكشك» واقتنصوا جميع محتوياته: «المجرمين بعد كده ولعوا فيه عشان تكمل»، أما فى أحداث «محمد محمود» فالكشك تعرض للإحراق بالكامل ولم يتبق منه سوى سيراميك الأرضية: «فيه حاجة مش مفهومة.. فيه حاجة غلط.. ليه الجيش يستخدم العنف فى تفريق أهالى المصابين والشهداء.. وليه الداخلية تستنى الوقت ده كله عشان يعملوا الجدار العازل؟»، أما الثوار فهم قلائل على حد قوله: «أغلب اللى كانوا موجودين فى الأحداث كانوا مشاركين عشان مصالح شخصية وده ميمنعش إن فيه ثوار بجد لكن قليلين».