كان المشهد صادماً، ربما لم نشهد له مثيلاً منذ فترة طويلة، مواطنون ورجال شرطة مسلحون يمارسون الإذلال على جنود وضباط ينتمون إلى الجيش التركى، بل وصل بهم الأمر إلى ذبح أحد هؤلاء الجنود بالسكين فى مشهد علنى بالضبط كما يفعل تنظيم داعش الإرهابى. إن الغريب فى الأمر هو هذه الاستكانة غير الطبيعية لرجال الجيش التركى الذين طُلب منهم خلع ملابسهم فخلعوها، وطُلب منهم رفع أيديهم وترك أسلحتهم ففعلوها، ثم طلبوا منهم الانبطاح أرضاً أمام جمع من الناس فلم يترددوا، ثم انهالوا عليهم بالسياط والركلات بالأقدام والأحذية ولم يستطع أحد منهم أن يدافع عن كرامته وشرفه العسكرى وعندما زجوا بهم إلى زنازين صغيرة حشروهم فيها فتلاصقت أجسادهم، لم يملكوا إلا أن يدفنوا رؤوسهم، مستسلمين صاغرين. إن السؤال الذى يطرح نفسه هنا: لماذا لم يقاوموا؟ لماذا لم يدافعوا عن كرامتهم؟ لماذا استسلموا بهذه الطريقة؟ ولماذا انهار الجيش بعد أقل من ساعة من إعلانه رسمياً أنه سيطر على البلاد وألقى القبض على رئيس الأركان الداعم لأردوغان، وأحكم الحصار على المطارات، ونشر قواته فى الشوارع والمواقع الرئيسية، وفرض حظر التجول؟ إن الإجابة الوحيدة أن هناك تعليمات صدرت بالانسحاب والاستسلام، وعدم إطلاق الرصاص أو التصدى للمتظاهرين الذين زحفوا فجأة إلى ميدان تقسيم بعد إذاعة خطاب أردوغان الذى كان منذ قليل يبحث لنفسه عن موطئ قدم، أو دولة تقبل باستضافته ولجوئه إليها، خاصة بعد أن رفضت ألمانيا ودول أخرى عديدة استقباله. لقد ترددت معلومات عديدة بأن ما جرى لم يكن إلا سيناريو متفقاً عليه مع بعض القيادات وهو ما أكده فتح الله جولن، وأن أردوغان كان فى حاجة إلى هذا الانقلاب «الوهمى» لانحسار شعبيته وسعيه إلى الاستئثار بالسلطة وتعديل الدستور، وتصفية خصومه فى الجيش والقضاء، وهو ما تحقق على الفور بعد إعلان فشل الانقلاب حيث صدرت قائمة بنحو 2745 قاضياً من بينهم 5 من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء صدر قرار بعزلهم بعد ساعات قليلة من فشل «مسرحية» الانقلاب كما يقول البعض، مما يدلل على أن القائمة كانت جاهزة وأردوغان كان ينتظر فقط الفرصة المواتية التى جاءت إليه، أو كان صانعها الأساسى، وهو بالضبط نفس السيناريو الذى جرى تنفيذه داخل الجيش، الذى ظل يمثل صداعاً دائماً ومستمراً لحكم أردوغان، حيث بدأت عمليات تصفية واسعة للقادة والضباط المناوئين، وبذلك تمكن أردوغان أن يحقق هدفه ومخططه دون أن يعارضه أحد، ولو كان قد حدث ذلك فى ظروف طبيعية لقامت الدنيا ولم تقعد. ويرى أصحاب هذا الاعتقاد أن «مسرحية» الانقلاب قد جاءت بنتائجها، وحققت مراميها، ومكّنت أردوغان من التأسيس لتركيا الجديدة كما قال فى أحد خطاباته بعد عودته إلى «إسطنبول». وهناك السيناريو الثانى الذى يقول أصحابه: إن القادة العسكريين الجدد ارتكبوا خطأ كبيراً عندما قرروا سحب القوات التركية من العراق وإغلاق قاعدة «أنجرليك» الأمريكية، وفى هذا الوقت قيل إن الولاياتالمتحدة بدأت تدرك خطورة النظام الجديد، فانقلب موقفها من التحفظ إلى إعلان تأييد ما سمته بالحكومة الديمقراطية المنتخبة، وراحت تدعم حكم «أردوغان» وتطلب من الدول الأخرى ضرورة دعمه، وفتحت أبواب القاعدة الأمريكية فى تركيا لطائرة أردوغان الحائرة فى سماء تركيا، ومن هناك انطلقت طائرات «إف 16» الأمريكية لتضرب المروحيات التركية التى كانت تقل الضباط والجنود الذين كان يتم نقلهم للسيطرة على بعض المواقع الرئيسية، وقيل أيضاً إن هناك العشرات من المروحيات تم إسقاطها. وأمام حالة الارتباك الشديد التى سادت قادة الانقلاب الجدد والتدخل الأمريكى السافر إلى جانب أردوغان، والتهديدات التى تلقاها قادة الانقلاب بسحقهم جميعاً، لم يكن هناك من خيار سوى الطلب من القادة والجنود الانسحاب من الشوارع حفاظاً على الجيش التركى الذى يمكن أن يتعرض لمخاطر كبرى، خاصة أن هناك قادة كباراً من الجيش رفضوا الانخراط فى هذا الانقلاب وأعلنوا دعمهم لأردوغان، الأمر الذى يمكن أن يهدد بحرب أهلية فى البلاد وبتفكك الجيش التركى من الأساس. ومن هنا يمكن فهم حالة الاستسلام المهين التى ظهر عليها الجيش التركى، الذى يبدو أنه فى كلتا الحالتين تلقى أوامر صريحة بالتوقف عن زحفه للسيطرة على المراكز الحيوية والانسحاب من الشوارع إلى الثكنات العسكرية. إن ما حدث فى تركيا سيبقى غامضاً لفترة من الوقت بين مسرحة الحدث من البداية إلى النهاية وبين التدخل الأمريكى الإسرائيلى المباشر الذى دفع قادة الانقلاب إلى إنهاء سيطرتهم على السلطة للحيلولة دون تفكك الجيش واندلاع الحرب الأهلية فى البلاد. غير أن مشهد إهانة رجال الجيش ومرمطتهم فى الشوارع ستبقى له تداعياته الخطيرة، وسيبقى خالداً فى الذاكرة، خاصة إذا عرفنا أن من قام بذلك هم أعضاء حزب العدالة والتنمية «حزب أردوغان» ورجال شرطته وقواته الخاصة، الذين هم أقرب إلى ميليشيات الحزب. لن ينسى قادة الجيش وضباطه وجنوده هذا المشهد الذى مثّل إهانة لشرفهم جميعاً، سواء كانوا مؤيدين للانقلاب أو رافضين له، ولذلك فإن هذا الجيش فى الوقت القريب أو البعيد سوف يثأر لكرامته، ويسترد شرفه، ويؤدب من حرّضوا على إهانته. إن الذين يظنون أن أردوغان قد انتصر واهمون، فالمعركة لم تنته بعد، وغباء «الإخوانى» أردوغان سيقوده إلى مزيد من المشاكل والأزمات، أبواب الصراع باتت مفتوحة على آخرها، والتوقعات باتت بلا سقف محدد، ومصير العثمانلى الجديد بات فى مهب الريح.