«لا تتّبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم». ربما ظلّت تتردد تلك المقولة فى أصداء التاريخ، أمارةً على علم ونبوغ، وفهم صحيح وفكر صائب فى تقدير الأمور! متى قيلت هذه العبارة؟ ومن قائلها؟ إذا أردنا الاجابة عن هذه الأسئلة ينبغى أن نعود إلى الوراء كثيراً.. ربما كى نستوعب الظرف الزمانى والمكانى الذى قيلت فيه.. ونرى مدى حكمة قائلها.. والقائل هو عبدالرحمن الداخل.. صقر قريش الذى وحد الأندلس وأسس دولة لم تتكرر.. والقصة أنه عندما نزل عبدالرحمن بن معاوية على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، ثم انطلق معه إلى «قرطبة»، كان يحكم الأندلس فى ذلك الوقت يوسف بن عبدالرحمن الفهرى، وكالعادة كان فى الشمال يقمع ثورة من الثورات، ذلك الوقت الذى قال عنه المؤرخون: كاد الإسلام ينتهى من بلاد الأندلس فى عام ثمانية وثلاثين ومائة.. ويدخل عبدالرحمن بن معاوية الأندلس ويبدأ فى تجميع الناس من حوله، محبّى الدولة الأموية، والبربر، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبدالرحمن الفهرى، ثم فكّر عبدالرحمن بن معاوية فى اليمنيين الذين كانوا على خلاف مع الفهرى الحجازى رغم كونه أيضاً من الحجاز، لكنهم رأوا أنهم ليس لهم طاقة بيوسف بن عبدالرحمن الفهرى، فقبلوا أن يتّحدوا مع عبدالرحمن بن معاوية.. كان على رأس اليمنيين فى ذلك الوقت أبوالصباح اليحصبى، وكان المقرّ الرئيسى لهم إشبيلية، وهى المدينة الكبيرة التى تعدّ حاضرة من حواضر الإسلام فى ذلك الوقت، فذهب عبدالرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية واجتمع طويلاً مع أبى الصباح اليحصبى، واتفقا على أن يقاتلا معاً ضد يوسف بن عبدالرحمن الفهرى.. قبل القتال كان عبدالرحمن بن معاوية قد أرسل عدة رسائل إلى يوسف بن عبدالرحمن الفهرى يطلب ودّه وأن يسلم له الإمارة ويكون الفهرى رجلاً من رجاله فى بلاد الأندلس، بحكم أنه (عبدالرحمن) حفيد هشام بن عبدالملك من رموز الخلافة الأموية، لكن يوسف الفهرى رفض كل ذلك، وجهز جيشاً وجاء ليحارب عبدالرحمن بن معاوية ومن معه فى موقعة عُرفت فى التاريخ بموقعة المسَارة.. التى انتهت بانتصار صقر قريش.. وفرار جيش الفهرى.. كان عادة المحاربين فى ذلك الزمن أن يتبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارّين، ليقتلوهم ويقضوا عليهم، ومن ثَمّ على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يجهّزون أنفسَهم ليتتبعوا جيش يوسف الفهرى.. كان عبدالرحمن الداخل يمنعهم وهو يهتف بتلك المقولة! لقد أراد صقر قريش الشاب الذكى أن يوضح لجيشه أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيصبحون غداً من جنودنا، ومن ثَمّ عوناً على أعدائنا فى بلاد أخرى.. وقد كان بعد ذلك بالفعل! ولذا فقد رأى أن فى تتبعهم فجراً للخصومة لا معنى له! فهكذا رحمه الله كان ذا نظرة واسعة جداً تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوروبا.. وهكذا كانوا.. رعية وحكاماً. وللحديث بقية!