"غراب" يهنئ رئيس الجمهورية بمناسبة الاحتفال بالذكري ال42 لأعياد تحرير سيناء    انخفاض أسعار الأسماك في المنوفية بنسبة 25% بعد حملات المقاطعة    قائمة رسوم الاطلاع على البيانات للعملاء المؤمن عليهم بعد موافقة «النواب»    محافظ القليوبية: تحويل المداخل والجزر الوسطى في بنها إلى حدائق ومتنزهات    ادفع مخالفات المرور 2024 برقم اللوحة عبر البوابة الإلكترونية.. بالخطوات    انطلاق معرض وتريكس للبنية التحتية وتكنولوجيا المياه والصرف 28 أبريل 2024    وزير خارجية أيرلندا: ندعم حصول فلسطين على عضوية الأمم المتحدة    الغزاوي: ملف الرعاية يتصدر اهتمامات مجلس إدارة الأهلي    فحص طبي لزيزو وفتوح في تدريبات الزمالك    التشكيلة المتوقعة لفريقي الهلال والعين ..موعد مباراة الهلال والعين اليوم    انطلاق فعاليات مهرجان سباق الهجن في العريش (فيديو)    عدلي القيعي: القادم يمثل تحديا خاصا للأهلي    إصابة 21 شخصا في حادث انقلاب أتوبيس على طريق السويس الصحراوى    النيابة تستدعي أسرة طفلة توفيت إثر سقوطها من علو بأكتوبر    مصرع سائق في حادث تصادم بسوهاج    وزير الاتصالات: مصر حققت تقدما ملحوظا في مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي    احتفاء باليوم العالمي للكتاب.. خصومات متنوعة على إصدارات هيئة الكتاب لمدة أسبوع    افتتاح فعاليات «حكاية الإنسان والمكان» في مكتبة الإسكندرية    غدا.. صحة المنيا تنظم قافلة طبية في قرية الفقاعي بمركز أبوقرقاص    بمستهل جولته بكوريا الجنوبية.. أسامة ربيع يبحث سبل التعاون في الصناعات البحرية    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    تراجع أداء مؤشرات البورصة تحت ضغط من مبيعات المستثمرين    اعتماد جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكفر الشيخ.. اعرف المواعيد والتفاصيل    رئيس شُعبة المصورين الصحفيين: التصوير في المدافن "مرفوض".. وغدًا سنبحث مع النقابة آليات تغطية الجنازات ومراسم العزاء    السفير طلال المطيرى: مصر تمتلك منظومة حقوقية ملهمة وذات تجارب رائدة    أثليتك: إيمري يمدد عقده مع أستون فيلا إلى 2027    «النواب» يبدأ الاستماع لبيان وزير المالية حول الموازنة العامة الجديدة    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    فيلم يقفز بإيراداته إلى 51.3 مليون جنيه في 13 يوم.. تعرف على أبطاله وقصته    هل يستمر عصام زكريا رئيسًا لمهرجان الإسماعيلية بعد توليه منصبه الجديد؟    تأجيل نظر 3 قضايا قتل والبراءة لآخر بمركز بني مزار في المنيا    احذر- الإفراط في تناول الفيتامينات يهددك بهذه الحالات المرضية    رئيس جامعة عين شمس والسفير الفرنسي بالقاهرة يبحثان سبل التعاون    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف مناطق لحزب الله في جنوب لبنان    متحدث وزارة العمل: تعيين 14 ألف شخص من ذوي الهمم منذ بداية 2023    البرلمان يحيل 23 تقريرا من لجنة الاقتراحات والشكاوى للحكومة لتنفيذ توصياتها    ناتاليا: درسنا أبيدجان جيدًا وهدفنا وضع الأهلي في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    عبدالرحمن مجدي: مباراة الاتحاد بداية تحقيق طموحات جماهير الإسماعيلي    «مفاجآت مالية».. توقعات برج الدلو في الأسبوع الأخير من أبريل 2024    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    "ضربها بمزهرية".. تفاصيل مقتل مسنة على يد سباك بالحدائق    وزير الصحة: التوسع في الشراكة مع القطاع الخاص يضمن خلق منظومة صحية قوية    تحذيرات هيئة الأرصاد الجوية من ارتفاع درجات الحرارة ونصائح الوقاية في ظل الأجواء الحارة    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    بمناسبة اقتراب شم النسيم.. أسعار الرنجة والفسيخ اليوم الثلاثاء 23/4/2024    رئيس الأركان الإيراني: ندرس كل الاحتمالات والسيناريوهات على المستوى العملياتي    شعبة الأدوية: انفراجة في توفير كل أنواع ألبان الأطفال خلال أسبوع    نيللي كريم تثير فضول متابعيها حول مسلسل «ب100 وش»: «العصابة رجعت»    الدفاعات الأوكرانية: دمرنا جميع الطائرات المسيرة التي أطلقتها موسكو خلال الليل    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    طلاب الجامعة الأمريكية يطالبون الإدارة بوقف التعاون مع شركات داعمة لإسرائيل    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفقية الدستورى جابر جاد نصار يكتب: «التناقضات الكبرى» فى الثورة المصرية
نشر في الوطن يوم 25 - 01 - 2013

لا يمارى أحد فى أن المؤرخين والمتابعين والمهتمين بدراسة التغيرات المجتمعية الكبرى ومنها الثورات والانقلابات والاحتجاجات الشعبية المؤثرة، سوف يتوقفون كثيراً أمام حالة الثورة المصرية، تلك الثورة العظيمة ؛ التى أذهلت العالم من حيث كونها حفلت بكثير من التناقضات الكبرى كان أولها: أنها ثورة جاءت بتلقائية وعفوية بدأت بمظاهرات واحتجاجات محدودة فى وجه نظام ظن الكثيرون، قوة بنيانه وشدة بأسه، وقهره، فإذا بهذه الاحتجاجات تتسع حتى أكلت رأس هذا النظام الذى بدأ منذ يومه الأول فى مواجهة هذه الاحتجاجات مرتبكاً ومذعوراً، وإذا ارتضت هذه الثورة من الغنيمة بذهاب هذا الرأس، فقد بقى جسد النظام قوياً فتياً أعمل كل ما يملك من قوة وآليات فى إجهاض حلم هذه الثورة والتى لم يعترف بها أبداً، وكان منطقه فى ذلك تعديل النظام بأقل قدر من الخسائر فى الأشخاص والمؤسسات.
وكان جوهر هذا التناقض يتمثل فيما انتهت إليه الحالة الثورية المصرية من استيداع أمل هذه الثورة وأهدافها بين أنياب جسد هذا النظام الذى ما برح ينهش فى هذه الثورة ويقمعها فعلاً وواقعاً وإن ادعى غير ذلك بأنه حارسها وشريكها الأساسى. وكان لا بد لهذا المدعى الذى ادعى حالة ثورية مزيفة أن يجد شريكاً يبرر له ما يفعله ويسانده وقت الحاجة إليه ومن هنا كان التناقض الثانى.
أما الثانية: فتجلت فى التناقض الواضح بين من قام بالثورة ومن ركب موجاتها موجة بعد موجة، حتى استبد بها، ولملم غنائمها، وتصدر المشهد تماماً، وبدت فى ذات اللحظة الهوة السحيقة بين أحلام شباب صغار فى سنهم فى بناء نظام حكم ديمقراطى يكفل لهم تحقيق أهداف الثورة المصرية من العيش والحرية والكرامة الإنسانية وبين شيوخ كانوا دائماً على هامش الثورة التحقوا بها مؤيدين تارة ومناورين تارة ومفاوضين تارة حتى نجحوا فى اختراق المساحة الشاسعة بين سلطة مرتبكة مضطربة تبحث عمن يخرجها من مأزقها بأقل قدر من الخسائر فى الأشخاص والمؤسسات، وبين ثوار ليس لديهم حلول وسط وليس لديهم أى إمكانية ذهنية، أو ثورية تسمح لهم بالحلول الوسط.
وبدا للطرفين، الأول وهو نظام حكم استبدادى بنى سلطته على القهر والزيف غارق فى الفساد حتى أذنيه، والثانى توهم أنه قد أمسك بين يديه مفاتيح الثورة فى ميادين مصر كلها فهى تأتمر بأوامره وتنصاع لإشاراته، بدا لهما أن اللحظة تاريخية بكل ما تحمله من معانٍ لكى يحقق كل طرف أمانيه فقد كان مجمل أمانى الطرف الأول أن يظل الحال على ما هو عليه ليست المشكلة فى شخص الرئيس أو حاشيته فقد يسجن رئيس داخل سجن النظام أو يجلس آخر فى قصر النظام، فلا عبرة بالاسم أو بالرسم، المهم إنقاذ النظام.
فالمهم أن ينجو الجمع بغنائمه التى حصل عليها دون حساب أو عقاب قد تكون هذه النجاة فى خروج آمن للبعض من بطن السلطة أو دخول آمن للبعض إلى بطن السلطة، أو فى إعادة هيكلة، أو بناء ذات النظام بشكل وآليات مختلفة، ولكن يظل جوهر النظام كما هو يظل الغنى غنياً ويظل الفقير فقيراً ويزداد المريض مرضاً لأن فقره ومرضه وجهله هو الوقود الذى يغذى ماكينة أى نظام مستبد، وإذا حافظ النظام على استبداده فليس من المهم وجه هذا النظام الذى يطل على الشعب، ففى كل الأحوال كلها وجوه كاذبة مخادعة تظهر غير ما تبطن، تكذب كما تتنفس.
أما الطرف الثانى فقد وجد فرصة عمره التى كان يسعى إليها ووجد أن أحلام الثوار لا تتقاطع مع أحلامه بل تتصادم ومن ثم يجب العزوف عنها وتسفيهها وتشويهها، فأحلام هذا الشباب الحق فى الحرية والكرامة والعدالة أصبحت أعباء على أحلامه وتطلعاته ويجب أن تشوه ومن ثم فلم يعد لهم شرعية، فالشرعية قد احتكرها وحده وغيره هم من المخربين ومن البلطجية ومن الفلول ومن متعاطى الترامادول ومن الشواذ أو المستأجرين ببضعة جنيهات أو بضعة مثلثات جبنه نستو!!. وهو ما حدث فى الأحداث المتتالية فى محمد محمود، ومجلس الوزراء، والعباسية، والاتحادية، وغيرها، فهم ليسوا من الثوار بل سفهاء يريدون هدم النظام أو مخالفة الشرعية أو إيقاف العجلة عن الدوران والتى يجب أن تدور حتى تدهس الجميع فذاك أمر غير مهم.
فى ظل هذه الصورة نجد أن الكذب يسوق كحقائق ولكن يشاء العلى القدير أن يفضحهم وحين يستشهد ثائر يتضح أنه من أنقى وأطهر شباب هذه الأمة، عندما يجرح ثائر يتضح أنه من أجمل زهور هذا الوطن، شباب ثوار أحرار أطهار خرجوا ليطالبوا بحقهم وحق شعبهم فى الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، وأملهم فى نظام ديمقراطى تتوازن فيه السلطات وتصان فيه الحريات وتحفظ فيه الحقوق.
وعلى ذلك فإن أحلام الثوار وآمالهم قد وقعت فى الحقيقة بين شقى الرحى بين سلطة عتيقة تأبى أن تسلم بالهزيمة وبين سلطة حديثة ترنو ببصرها إلى ميراث سلطة تتحرك بذات الآليات ووفق ذات الأهداف وبنفس الإطار ولا بأس من التغيير فى الأشكال وبعض الآليات.
وكان لا بد لإكمال الحبكة الدرامية للمشهد العجيب والغريب أن يتسم المشهد بقدر من التشويق الذى يلفه الغموض، وفى هذا الجو الملتبس، ظهر الطرف الثالث الذى لم يكتشفه أحد أبداً فى أى من الحوادث الذى نسبت إليه.
فقد كان هذا الطرف الثالث هو الفاعل المصنوع والمجهول لكل المشكلات التى ظهرت، ولكل التوترات التى حدثت. وعلق فى رقبته دماء سالت، وجروحاً فتحت وعندما تحدث الحادثة، فإن شماعة الطرف الثالث دائماً كانت حاضرة وبقوة وكان فى حقيقته مجرد أشباح أو أضغاث أحلام لا وجود لها إلا فى ذهن من يريد أن يتنصل من المسئولية التى توجب عليه أن يوضح ويبين كيف تحدث هذه الأحداث ومن الذى يحدثها؟ أو كان شريكاً فيها أو محرضاً عليها لإجهاض أحلام الثورة وإنهاك الثوار.
إن هذا الاحتواء الذى جرى من طرفى اللعبة السياسية للثورة المصرية، ولثوارها كان يأمل فى إطفاء جذوتها والانتهاء منها بأسرع ما يمكن حتى يتفرغ البناءون الجدد للبناء وفقاً لما يرتسم فى أذهانهم من آمال وأحلام، وليس وفقاً لأحلام الثورة والثوار وأحلام الشعب، ولا بأس أن يبقى للثوار حق الاحتفال بثورتهم فى عيدها فهو عيد أضيف إلى أعيادنا المجيدة الذى لم يبق منها غير الذكرى.
إن هذا الاحتواء كفكرة أصبح حقيقة حين بدأ تنفيذه بعمل لجنة لتعديلات دستور 1971 وهى ذات الفكرة التى لجأ إليها الرئيس السابق لإنقاذ نظامه، الذى بدا أنه يتهاوى تحت سهام الثوار، والذى حدث بعد رحيله هو فقط تغيير أعضاء اللجنة وصبغها بصبغة سياسية معينة تتلاءم مع ما حدث من توافق واتفاقات، ولكن التعديل بقى منه الفكرة والهدف والوسيلة.
الفكرة: وهى إنقاذ نظام بدا أنه يتهاوى ويسقط ولا يريد المنتفعون به وكذلك الطامعون فيه التسليم بذلك.
والهدف: كما أشرت قبل ذلك هو إنقاذ هذا النظام بأقل قدر من الخسائر فى الأشخاص والمؤسسات وتجاوز مطلب التغيير ببعض التعديل، فالمسألة فى الأول والآخر هى تعديل بضع مواد من ميثاق هذا النظام ودستوره.
والوسيلة: هو التعديل وليس التغيير ذلك أن التغيير الجذرى لم يكن أبداً مطروحاً على أجندة اللاعبين الأساسيين أو الاحتياطيين فى محيط السلطة وإن كان التغيير هدفاً وغاية وأملاً للاعبين الأساسيين والاحتياطيين فى ملعب الثورة وميادينها والذى تخلى عنهم الكثيرون، والذين ذهبوا لجمع المغانم والمآرب والمناصب وتخلفوا عن ميادين الثورة فقد نسوها وتناسوها ولا يتذكرونها إلا لمناهضة الثوار وتسفيههم أو حتى الاعتداء عليهم.
وكان لا بد أن تواجه الثورة والثوار بمنطق لا يستطيعون رده أو دفعه، ومن هنا بدا تسويق الطمع فى مغانم الثورة وغنائمها بأنه شرع الله، وأن الاستفتاء لحماية المادة الثانية من الدستور، ولحماية الشريعة الإسلامية، وأن الذين يخالفون الاستفتاء ويقولون لا إنما لا يريدون شرع الله، ويدعون لزواج المثليين، وإلى تعدد الأزواج للمرأة الواحدة وأنهم يكرهون شرع الله، وفى النهاية قالت الصناديق للدين نعم فى غزوة الصناديق الشهيرة، ومن لم يعجبه هذا الغزو فليخرج، فأبواب البلاد مشرعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
كانت الثورة والثوار يواجهون كذباً بواحاً ولبساً بين الحق والباطل وقولاً بالهوى تأذى منه الدين والعقل والوطن، بصورة غير مسبوقة فى تاريخ المصريين لقد جعلوا من الدين الذى هو عدل كله ورحمة كله وخير كله سبباً لتمزيق الأمة وإطاراً لتمرير تصورات سياسية فاسدة ومسمومة، سوف يسألون عن ذلك أمام الله عز وجل بكل تأكيد.
ذهب الطرفان يحرسهما الطرف الثالث بناء على هذا الاستفتاء المسموم إلى انتخابات غير صحيحة وباطلة وغير دستورية وبدا المشهد السياسى بالغ الغرابة، برلمان جاء بعد ثورة يتهم الثوار بالبلطجة والانحراف والتخريب ونسوا أن هذا الشباب الطاهر هو الذى أجلسهم -بقدر الله- على هذه المقاعد الوثيرة، وملأ جيوبهم بأموال وفيرة، ورتب لهم صدارة المشهد الإعلامى والسياسى، نسوا أن دماء الثوار التى سالت وتسيل كل يوم على أرض الثورة وميادينها هى التى ساقتهم -بقدر الله- إلى ما هم فيه.
وعندما حل البرلمان بحكم من المحكمة الدستورية العليا - وأياً كان الرأى واختلاف وجهات النظر حول هذا الحكم وما رتبه من آثار- فإنه قد كشف فى ظنى التناقض الواضح بين أهداف من سعى إلى السلطة ومن عض على أهداف ثورته بالنواجز، وقبض عليها كالقابض على الجمر، وكان من الملاحظ هذا الحشد لكتائب الزحف الإعلامى الذى وجد فى حل البرلمان وسيلة لتوجيه بوصلة المشهد الثورى نحو هذه المشكلة للخروج من إشكاليات الميادين والثورة، ولا بأس من خروج المليونيات والحديث عن المليارات التى أريقت فى الانتخابات وكل ذلك لقمع المشهد الثورى ولتأكيد أن الثورة قد انتهت وأن المسموح فقط هو الاحتفال الكرنفالى نفس ما كان يرنو إليه المجلس العسكرى حين فاجأ الجميع بأنه سيقدم هدايا وسحوبات على هدايا تمثل مفاجآت فى ذكرى الثورة.. ولكن هيهات أن يكون ذلك حتى ولو تتابع التخطيط له.
فالحالة الثورية فى مصر ما زالت قائمة وملتهبة وقابلة للانفجار فى كل وقت وحين، وما حدث بعد ذلك من الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية الذى تجرع فيها كثير من المصريين خياراً مريراً، والذى عبرت عنه خفة ظل المصريين حين سوقوا لأنفسهم هذا الخيار باستهلاك عشرات الأطنان من الليمون حتى يختاروا من توهموا أنه الأقرب إلى أحلام ثورتهم وهو الأمر الذى اتضح للكثيرين أنه كان حقاً وصدقاً مجرد وهم. ولكن العجيب والغريب أن هذا الوجه تكشف سريعاً وبغير مواربة وبدا النظام وحكومته لا يختلفان كثيراً عما كان وسلف. فالمشهد لم يختلف، ميادين فى مواجهة سلطة، وسلطة تتحرك بآليات اقتصادية وسياسية واجتماعية لا تختلف كثيراً عما كان وسلف.
على أن الأمر لا يخلو من فروق، فالمشهد البائس والمرتبك للسلطة الجديدة والبادى فى عدم قدرتها على ممارسة مهامها والوفاء باحتياجات شعب أنهكه الاستبداد وخرب مؤسساته الفساد ؛ فضلاً عن غياب الرؤية والمشروع والحلم وسط حمم من الأطماع فى ممارسة السلطة والسيطرة على مفاصل دولة لإدخالها بيت الطاعة وليس لتأسيس تقدمها أو إنقاذ اقتصادها.
كل ذلك يعد مقدمات منطقية لنتائج حتمية تؤكد أن الثورة مستمرة؛ لأن الذين قاموا بها مصرون على استكمال أحلامها. وإن الشيوخ -مثلى- والذين راقبوا المشهد وشاركوا فيه جهد طاقتهم تأييداً وانبهاراً بعظمة هذا الجيل الشاب الذى لديه من العزم والتصميم والإرادة، ما أبهر العالم قد يصيبهم الوهن أو اليأس حيناً، فهم واهمون حتى حين يذهبون إلى الإمساك بطرف من المشهد السياسى بالانحراف فى عملية انتخابية مكتوب عليها الفشل وسوف تصير حتماً إلى نفس نتائج النظام السابق، حزب مهيمن ومسيطر وأحزاب وصيفة خادمة ليست لديها القدرة على الفعل أو رد الفعل تقوم بدور المسوق والمحلل والمعارض وقت الحاجة لذلك، فإن ذلك كله لا يفت فى عزيمة الثوار واستمرار ثورتهم.
فالاستبداد فى العصر الحديث، لا بد أن يستند إلى أسس ديمقراطية أو المفروض فيها أن تكون ديمقراطية، وفى ظلها سوف يدرك الحاكم -أى حاكم- أننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية.
ماذا تريد أيها الشعب المناكف والمشاكس؟ أليس لديك رئيس منتخب ودستور مستفتى عليه وحكومة لا تنام الليل.. اصبر أيها الشعب الحبيب، إن عشرين أو خمسين أو مائة سنة فى عمر شعب قديم قدم الزمن والحضارة لا تمثل شيئاً مذكوراً. عليك بالصبر والمثابرة، صحيح أنه ليس لديك ضمان حتى لا تزداد فقراً وليس لديك ضمان ألا يستبد بك حكامك وليس لديك ضمان حتى تصان حقوقك وحرياتك، ولكن لديك رئيس منتخب وبرلمان منتخب ب6.5% يصنع القوانين على أعين حكامك ودستور وما أدراك ما الدستور، دستور صنعه لك حاكمك يتغول به على حقوقك وحرياتك ويقيدها ويتباهى علناً أنه قيدها، فتح لك أبواب المحاكمات العسكرية على مصراعيها ونص كذباً على أن هذا القضاء هو قضاء مستقل فى سابقة لم تعرفها دساتيرك من قبل، ولكن أنت لا تعرف فى الأمر أكثر من حكامك المنتخبين فهم يعلمون أين تكون مصلحتك فإذا كان فهمك مقصوراً، ففهمهم يحيط بكل حاجياتك، وإذا كان أحلامك محدودة فحبهم لك بغير حدود، وهو يضمنون لك أن تموت شهيداً تحت عجلة قطار أو تحت أنقاض بناء أو فى مظاهرة أو احتجاج، وأنت تعلم مدى جزاء الشهداء، فلا تحرم نفسك من ذلك وتسعى إلى أن تموت على فراشك كالبعير.
يا سادة كل ذلك أوهام: إن الجيل الذى ثار والشباب الذى خرج لن يعود عن ثورته، إلا إذا تحققت أحلامه. إن الوطن بكل اتساعه ضاق به وبأحلامه فأصبح هذا الجيل الثائر متعلماً حاصلاً على أعلى الشهادات وهو عاطل ومؤهل للقيادة ومكانه دائماً فى الخلف مهملاً محبطاً مهموماً. ضاقت به الأرض فقد كان بالأمس يحلم بشقه يسكن فيها ويتزوج ويكون أسرة الآن يحلم بمدفن ليدفن فيه أحلامه. هذا الجيل الذى ثار لن يعود عن ثورته وسوف يكملها شاء من شاء وأبى من أبى فالثورة مستمرة، والذى يريد أن يحتفل فى ذكراها فهو واهم فالثورة مستمرة اليوم وغداً من يقف معها سوف تقف معه ومن يتخلى عنها.. . فإن التاريخ لن يرحم.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.