تُعد مساحة الحرية التى تتمتع بها وسائل الإعلام عنصراً من عناصر مقياس الحرية فى البلد المعنى، كما أن حرية وسائل الإعلام تتخذ مكوناً من مكونات الديمقراطية، لذلك وُضعت مقاييس لحرية وسائل الإعلام بصفة عامة وحرية الصحافة بصفة خاصة تتدرج فيها الدول حسب تمتع وسائل الإعلام فيها بالحرية. ومن بين المكونات التى وضعها الاتحاد الأوروبى كمعايير على الوفاء باشتراطات انضمام الدول للاتحاد، مدى تمتع الدولة بحرية الصحافة. وتُعد مصر من دول العالم الثالث التى لها سجل حافل فى النضال من أجل تحقيق معدلات مرتفعة لحرية الصحافة، وإذا كان النظام الناصرى قد نجح فى تقييد الصحافة المصرية وساعده على ذلك امتلاك الدولة لصحف وغياب الملكية الخاصة، فإن رحيل هذا النظام وبدء مرحلة التعددية السياسية والانفتاح فى عهد السادات ساعد على انتزاع المزيد من الحريات للصحفيين، ولا ينفى ذلك ضيق السادات ذرعاً بالنقد والمعارضة. وخاضت نقابة الصحفيين معارك ضخمة مع نظام مبارك لانتزاع حقوق الصحفيين وتحديداً إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر. ثم جاءت ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وظهور الفضائيات ودور القطاع الخاص فى ملكية الصحف والفضائيات ثم الانتشار الرهيب للشبكة الدولية للمعلومات وبروز دور مواقع التواصل الاجتماعى لتشل قدرات الحكومات على ضبط الإعلام وتوجيهه، وإذا كنت الصحافة القومية والتليفزيون الرسمى قد واصلت العمل كبوق للحكومة، أياً كانت، فإن الصحافة الحزبية والمستقلة والخاصة والفضائيات الخاصة أصبحت المصدر الأول لدى الرأى العام. وفى مصر لعبت هذه الوسائل دوراً محورياً فى تبنى قضايا الشعب والتعبير عن آماله وطموحاته، لعبت هذا الدور فى ثورة الخامس والعشرين من يناير، وفى الوقت الذى تحولت فيه الصحف القومية والتليفزيون الرسمى إلى أبواق لجماعة الإخوان وحكم المرشد ومنعت المعارضين للمرشد والجماعة من الكتابة والظهور، فإن الصحف والفضائيات فتحت الأبواب على مصراعيها أمامهم للتعبير عن آلام الشعب وآماله، وكان لها الدور الأبرز فى الحشد لثورة الثلاثين من يونيو والإطاحة بحكم المرشد والجماعة. واصلت وسائل الإعلام المختلفة دورها التنويرى والمعبّر عن هموم الشعب وتطلعاته، كما لعبت دوراً مهماً فى كشف التجاوزات والأخطاء الأمر الذى أثار حفيظة الحكومة التى أرادت ضبط إيقاع وسائل الإعلام الخاصة فتعود كما كان الحال فى الستينات بوقاً للحكومة تروّج فقط للرواية الرسمية، هناك من يرى أنه بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتسييد الرواية الواحدة واللون الواحد من جديد، وهى رؤية قاصرة وغير قابلة للتحقق وغير مدركة للتحولات التى تمت فى فضاء الإعلام وتحديداً الإلكترونى الذى لا يمكن السيطرة عليه والذى بات ملجأ الأجيال الجديدة وعالمها الخاص. ما سبق يمثل مقدمة مهمة لفهم أبعاد الأزمة الحالية بين وزارة الداخلية ونقابة الصحفيين، فالهدف كسر إرادة النقابة وتطويعها عبر إسقاط ما تتمتع به النقابة من حصانة معنوية ضد الاقتحام، القضية لا تتعلق بالقبض على عضوين صدر بحقهما أمر ضبط من النيابة العامة، فلا أحد يجادل فى ذلك، لكن القضية هى أن قرار الاقتحام وعلى النحو الذى تم مثّل انتهاكاً صارخاً لقيمة معنوية تتمتع بها نقابة الصحفيين، فالقانون الخاص بالنقابة يحدد شروط دخول قوات الأمن لمقر النقابة العامة والنقابات الفرعية، وذلك فى حضور النقيب وعضو من النيابة العامة، وهو ما لم يحدث، حيث تم الاقتحام من قبَل قوة ضخمة، وذلك للمرة الأولى فى تاريخ النقابة، وأقدمت الحكومة الحالية على فعل لم يفعله مبارك ولا حتى محمد مرسى. السؤال هنا: كيف أدارت الحكومة ومجلس النقابة الأزمة؟ ذلك ما سوف نتناوله غداً بإذن الله.