ليس فقط التحرّش الجنسي- وإن كان التحرّش الجنسي آفة أصابت مجتمعنا المحافظ المتدين بطبعه!- ولكني أقصد التحرّش بكل شيء سواء مادي ملومس أو معنوي محسوس، نتحرّش بقطط الشوارع والكلاب الضالة، نتحرّش بالأسد الحبيس في حديقة الحيوان، نتحرّش بالسيارات في الشوارع، بأغطية البالوعات، نتحرّش بالجدران حديثة الطلاء، ونتحرّش بكل شخص مختلف اللون أو العقيدة أو الميول الجنسيّة أو حتى مختلف المظهر!. وعلى الجانب الآخر في ما يتعلق بالأمور المعنويّة غير الملموسة، نجد أنفسنا اعتدنا التحرّش بالأفكار الجديدة والغريبة، نتحرّش بالعلوم الجديدة على آذاننا ونسخر منها ولا نعيرها اهتمامًا، نتحرّش بالهواء ونلوِّثه يوميًا بعوادمنا العفنة، فالتحرّش كاد أن يتحول إلى فطرة يولد بها الإنسان في مجتمعنا وله أسباب وعوامل عديدة أهمها ثقافة الاختلاف وغياب العقليّة النقديّة. أظن أن أي إنسان عاقل ومتدبِّر لا يحتاج الآن لبراهين تؤكد غياب ثقافة الاختلاف والعقليّة النقديّة لا سيما بعد أحداث ثورتي يناير ويونيو، ورأينا جميعًا كيف كانت شراسة وحدّة المناقشات السياسية والدينية في أماكن العمل والهيئات الحكومية والجامعات وحتى المدارس ودور العبادة، رأينا عائلات تتمزق إلى نصفين بسبب اختلاف وجهات النظر وبسبب التطرف في الطرح وعدم الرغبة في تقبل أو حتى الإنصات إلى الرأي الآخر. إنّها العقليّة النقديّة ياسادة وحدها دون غيرها هي التي تقي الشعوب من شرور التطرف والتحرّش الفكري والانقسامات، هي وحدها دون غيرها التي تصنع الحضارات وتغذي الثقافات وتحث على الإبداع والتميّز، العقليّة النقديّة التي نادى بها ديكارت ونيتشه وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة الذين أدركوا أهميتها منذ قديم الأزل، تأمل المناهج الدراسية الفنلنديّة والبريطانيّة والأميريكيّة عزيزي القارئ ستجدها خالية من التلقين وتركز دومًا على الأبحاث والأطروحات والحوارات المفتوحة التي تحفز العقليّة النقديّة لدى الطلاب، على عكس مناهجنا التي تقوم أساسًا على التلقين والحفظ حتى أصبحت جملة "حافظ مش فاهم"، أكلشيه نردده يوميًا كناية عن النقل الأعمى وإهمال المعرفة، غياب العقلية النقدية هو أصلح تربة لنمو الأفكار المتطرفة و من ثم الإرهاب. إذا كان النظام الحالي حقًا يسعى نحو استئصال الإرهاب من جذوره فليجعل التعليم قبلته وليجعل تحفيز العقليّة النقديّة في المدارس والجامعات مقصده، عدا ذلك سوف تظل حربنا على الإرهاب حربأ أمنيّة فقط، فالأفكار المتطرفة تجد مرتعها الأصلح في عقول الشعوب التي لا تعترف بأهميّة النقد والتفنيد وتتحرّش بكل أطروحة ثقافية أو حتى فنيّة جديدة على آذانهم وأذهانهم، محاربة الجهل والفاشية الفكرية هي أقصر الطرق وأسهلها لمحاربة الإرهاب، فالمنظومة التعليمية في كل مراحلها تحتاج لعملية إحلال وتجديد وليس ترميم فقط، فالمنظومات التعليميّة في الغرب تعتمد في المقام الأول على البحث العلمي والنقد والتفنيد وإطلاق العنان لخيال الطالب وأفكاره ودور المعلم هو وضع الأسس والمعايير التقييمية للأداء البحثي للطلاب، هكذا أصاب الغرب ثلاثة طيور بحجر واحد، طائر الجهل وطائر الإرهاب وطائر التأخر العلمي فأول محطة في طريق الحرب على الإرهاب لا بد وأن تكون في مدارسنا وجامعتنا وإلا سيبقى الإرهاب يعيش وسطنا ويتوغل مثل النار في الهشيم، القضاء على جميع أنواع التحرّش سواء التحرّش الجنسي أو التحرّش بالأفكار أو حتى بالحيوانات والطبيعة يبدأ دائمًا من المدارس.