تختفى أمامهم كل القيود، يرتفع «برقع الحياء» تماماً، فالمذكور «دكتور صيدلى»، يعرف كل شىء «حسب الكثير من زبائنه» الذين يعتبرونه «سوبر هيرو» متوافر فى أى زمان ومكان، ليُقدم النصائح ويمنح الدواء. سيناريو لا يختلف من صيدلية إلى أخرى، يدخل «الزبون»، البعض يعلن عن طلباته بصورة طبيعية، فيما يلجأ الكثيرون إلى الهمس، فطلباتهم عادة «مُحرجة»، يشعرون بحرج من ذكرها أمام الجمع الواقف، طلبات كثيراً ما تكشف للطبيب عن جرائم على وشك الارتكاب، وعن مرضى بحاجة إلى أطباء نفسيين، لا إلى «صيادلة»، قصص كاملة يجدون أنفسهم جزءاً منها فجأة ودون مقدمات، ليبقى السؤال الأبرز: «أتصرف إزاى؟»، الذى يجيب عنه كل منهم على طريقته، وحسبما يعتقد، فلا قانون يحكم، ولا وثيقة أخلاقية أو قانونية ترشدهم إلى ما يجب أن يكون. «على» حاول الإبلاغ عن اغتصاب قاصر بمعرفة زوجها فتم الحل «ودياً».. و«طبيبة» تبحث عن مثير جنسى لطفلة معاقة ذهنياً من أجل إمتاع زوجها أحمد خميس، صيدلى شاب، وواحد ممن اصطدموا بالواقع القبيح، وصل إلى قناعة بدت غريبة: «المجتمع له عادات وتقاليد، بعيداً عن القانون، لازم نتعامل معاها، لأننا مش هنغير الكون»، وجهة نظر يدعمها بقوله: «كتير بنقابل مرضى (بيدوفيليا)، أو الولع بإقامة علاقة جنسية مع أطفال، فى الصعيد والفلاحين عمر الزواج بيبدأ أحياناً من 9 سنوات، إحنا بنسميه (بيدوفيليا)، والدولة بتسميه زواج قاصرات، وأصحاب الشأن بيشوفوه حاجة عادية جداً، مين يقدر يقول عليه مريض، ولو قلنا كده هيتعالج إزاى ما دام اللى بيعمله شرعى، على الأقل فى نظر أهل الطفلة وأهله والجيران والأصحاب؟!». «أحمد» يسوّق لفكرته رغم أن الدولة تعتبر زواج القاصرات «جريمة»، إلا أن هذا لم يوقفه بأى شكل من الأشكال، لذا يبقى الحل فى رأيه من خلال «التجاهل»، لأنها ثقافة مجتمع، فى المقابل يعارضه «على حسين»، الصيدلى فى بلبيس بالشرقية، وجهة النظر، صحيح أنه لا توجد مدونة سلوك ترشدهم إلى التصرف الأمثل، لكنه يُحكم ضميره فى المقام الأول. كانت آخر الحالات «المستفزة» التى قابلت «على»، استشارة من زميلة له بمحافظة الفيوم: «دخلت على مجموعة خاصة بالأطباء الصيادلة، أنا من مديريها، تستشيرنا فى دواء يزيد الرغبة الجنسية عند فتاة عمرها 13 سنة، وزوجها يشكو منها».. قرار عاجل من القائمين على المجموعة بحذف السؤال وتجاهل صاحبته، لكن «على» لم يقتنع بتلك الخطوة وحدها، حاول الوصول إلى مزيد من المعلومات، لأن الحل فى رأيه ليس فى الحذف أو التجاهل، لكن فى محاولة الوصول إلى أصل القصة: «بنت عمرها 13 سنة، اتجوزها راجل فى الأربعينات، متجوز 3 قبلها، لكنه مولع بالأطفال الصغيرين وحب يجرّب، الطبيبة الصيدلانية حبت تساعده، لأن البنت قريبتها، وفى الأرياف عندهم الأمر عادى ووارد، الزوج طلب من الطبيبة منوم، لكنها حاولت تقنعه أنه غلط، وبدأت تبحث عن بديل، وهو دواء يزود الرغبة الجنسية عند البنت!». العجيب كان ما اكتشفه الطبيب عبر محادثته مع الطبيبة الريفية: «البنت متأخرة عقلياً، مش متخلفة، لكن عقلها أقل من عمرها، والأهل بدافع أنهم يخلصوا منها، جوزوها لواحد قريبها، خصوصاً أنهم شايفين أن فرصها فى الزواج قليلة، ناس نصحته يصبر عليها سنتين أو 3 لما تبقى واعية، لكنه رفض، على اعتبار أنها زوجته ولازم يدخل بيها». السيناريو الشهير وقع بحذافيره، اغتصاب للشابة المعاقة، نزيف شديد، ورغبة من الزوج فى الحصول على مخدر: «مابقتش قادر أستوعب، وما زالت الطبيبة الصيدلانية بتدور على شىء يزود شهوة البنت، علشان مايضطرش يغتصبها فى كل مرة، نصحتها بضرورة عرض البنت على جراح، للاطمئنان على عدم حدوث تهتك، واديتها رقم المجلس القومى لحقوق الإنسان، وعرضت عليها إنى أبلغ بنفسى لو اديتنى العنوان، علشان ماتجيش منها، لكن هى قالت هتجرب معاهم تانى يمكن يرحموها». فى الصيدلية التى يعمل بها «على»، مر الطبيب بحالة مشابهة، لكن النهاية كانت مختلفة: «المرة دى كانت الأم هى اللى جايالى تطلب حل لبنتها، دخلت وهمست لى بنتى مش عارفة حاجة يا دكتور وجوزها بيضربها، شوف لنا حل، فسألتها كام سنة، طلعت 13 سنة، ووالدها موجود، ومفيش أى سبب يخليهم يجوزوها، خصوصاً أن الجواز زى ما عرفت تم بورقة عرفية»، كذلك يوضّح الصيدلى «الكارثة»: «طلبت أشوف البنت، لقيتها طفلة بالمعنى الحرفى، سألتها انتو إزاى قبلتم، لو طلقها بكرة الصبح مالهاش حقوق معاه».. تفكير طويل ومناقشات كثيرة قادته للتصرف الأمثل برأيه، خصوصاً بعدما علم أنها زوجة إضافية فى سلسلة زيجات متواصلة للرجل: «ده واحد منحرف، بيحب التعدُّد، ويشتهى الأطفال، ولو ماوافقتهوش هيلجأ لاغتصابها، لذلك قررت أبلغ المجلس القومى لحقوق الإنسان، ووصلتهم بالحالة»، مرت الأيام لتعود الأم من جديد وتفاجئ الطبيب الصيدلى بالنتيجة: «جاتلى بعدها بشهر، قالت لى إنه تم عمل قعدة عُرفية مع العريس، واتفقوا أنه يصبر عليها شوية!». لا يدرى «على» مدى صدق المعلومة، لكن الأكيد أن الحالات المشابهة لا تتوقف عن الاصطدام به يوماً بعد آخر: «إحنا مجتمع فيه فساد أخلاقى كبير، بتيجى لى أسئلة من عينة أنا عملت علاقة إمبارح مع واحدة من إياهم، وخايف يحصل لى مرض، ينفع آخد حاجة تحمينى؟» سؤال يتكرّر، بعض الصيادلة يعطونه مضاداً حيوياً يقيه، أما «على» فيرفض ويخبره أنه لا وقاية: «مش عاوز أسهّل له الموضوع، العلاقات المشبوهة كتير، والخوف من الأمراض ممكن يخليهم يبطلوا». «كتير بتيجى لى بنات مش تمام، تطلب أقراص للإجهاض، ودى ممنوعة ودخلت جدول الأدوية اللى ماينفعش تتصرف غير بوصفة طبية، بعض البنات مابتبقاش عارفة الاسم، لذلك بامشيها وأقول لها مفيش، باعتبارها جريمة، لكن بعض البنات عارفة اسم الدوا، وللأسف الدوا ده فى الأساس للوقاية من قرحة المعدة، ومن استخداماته غير المكتوبة فى الروشتة الإجهاض، تماماً ك(الفياجرا)، استخدامها الأصلى دواء للقلب، والثانوى منشطات، وعليه لو طلبته من صيادلة آخرين هيوافقوا، علشان عاوزين يبيعوا، وتنجح البنت فى قتل جنين عمره شهر أو أكتر»، طلبات كثيرة لدواء منوم يتلقاها الطبيب الشاب، ويرفضها قطعاً: «ناس شكلها مش مريح، معاهاش روشتة، وبيكونوا مصرين، وبيطلبوا الدوا بالهمس». أما عن «الحشاشين والمدمنين» فحدث ولا حرج، تعد هذه الفئة هى الأبرز فى الكوارث التى تواجه الصيادلة: «دى ظاهرة حقيقية، ومش فردية، فى المحيط اللى باشتغل فيه أقدر أقول إن المدمنين لا يقلون بأى حال عن 10% من إجمالى عدد السكان، وطبعاً رايح جاى على أى صيدلية، يطلب سرنجات، ويكون اللى واقف عارف إنه هياخدها علشان يتعاطى بيها، وبنبيع بدون نقاش، لأننا لو حاولنا نعمل شكوى فى أى قسم محدش هيعبّرنا»، كذلك يُدلل «على» على معلومته: «حصلت فعلاً مع زميل ليا راح يبلغ القسم علشان يقبضوا على المتعاطين، لكن قالوا له واحنا هنعمل إيه، ماعندناش مكان فى القسم، وحتى لو اتحبس، هيطلع هيطلع». منطق «الداخلية» أقنع الصيدلى الذى تأكد أنه المتضرر الوحيد، ففى حال أبلغ عن المتعاطى، سيحظى بانتقام أكيد منه: «بعض الأدوية الموجودة فى الصيدلية بيستخدمها المدمنين، إما لتأثيرها المباشر على الجهاز العصبى، فى ما يشبه تأثير المخدرات، زى بعض أدوية الكحة، وإما لأن الأدوية بتساعد الأدوية المخدّرة الأخرى، وبتزيد من كفاءتها فى جسم المتعاطى، وبعض الأدوية الأخرى بتقلل من التأثير الانسحابى للكوكايين والهيروين على باقى أجهزة الجسم، يعنى بيعمل دماغ، وبيقلل بعض آثاره الجانبية، وبرضه بيلاقيها بكل بساطة، فى النهاية مجبرين على التعامل معاهم، لأن مفيش قانون ولا أمن». فى صيدلية والده بمحافظة القليوبية، ظل الصيدلى الشاب محمد نوار، يعمل 15 عاماً، قبل أن يُقرر السفر إلى السعودية من أجل بيئة عمل أفضل، تجربة منحته الكثير من الحكايات والمواقف، سواء فى محل عمله الخاص، أو فى أماكن عمله ببعض المستشفيات الحكومية والخاصة: «أكتر المواقف المحرجة اللى صعب أتصرف معاها هم مرضى الحالات الجنسية والنفسية والإدمان، لو حد طلب منشطات جنسية باديله عادى، لكن المشكلة فى الناس اللى متخيلة أن الترامادول هيقلل مشاكلهم الجنسية، مش مقتنع لحد دلوقتى أن ده صحيح، المريض بيطلبه كنوع من الاطمئنان النفسى بأنه مش هيقدر يقوم بواجباته الجنسية إلا بالترامادول، فى حالة زى دى بامتنع وباعتذر له، لأنى مابصرفش الترامادول بدون القواعد القانونية المتبعة، مع ذلك كنت باقع فى مشكلة مستمرة، الناس اللى بتتعاطى ترامادول علشان يعملوا دماغ لو رفضت أديهم، كانوا بيهددوا بالتهجم عليا، وطبعاً لو بلغت عنهم مصيرى هيكون القتل لأنهم دايماً مش فى وعيهم». الكثير من الحرج اعتاده الرجل مع طالبى «الحبة الزرقاء»: «كانوا بيطلبوها على استحياء، بس الموضوع اتطور واختلف، ومابقاش فيه أى حرج، الأغرب لما واحدة ست جات تسألنى عن فياجرا وسط الناس، واكتشفت أنها لابنها الصغير، لعلاجه من ارتفاع ضغط الدم الرئوى». مشكلات بالجملة يجد «نوار» نفسه جزءاً منه، وحكايات كثيرة «فيه حاجات الصيدلى بيعرف يتصرف فيها، وفيه حاجات لازم يتحول إلى إخصائى يشوفها». «مدونة السلوك موجودة فى نقابة الصيادلة وأى نقابة بها منظومة أخلاقية نقسم عليها جميعاً فى ما يتعلق بالأمانة فى صرف الدواء والدقة فى التركيبات، لكن القوانين والقواعد لا تتضمن كل شىء، فبعض الأمور نكتسبها بالخبرة من بعضنا البعض، فمثلاً فى صيدليتى أتفق مع بقية الصيدليات فى الشارع على عدم صرف سرنجات لأى سبب، حتى لو طلب معاها المتعاطى أنبول رخيص الثمن على سبيل التمويه»، هكذا يطرح محمد سعودى، وكيل نقابة صيادلة مصر السابق، حلولاً للأزمة، مشيراً إلى أن الكثير من الأمور تحكمها التجربة: «مؤخراً لاحظنا أن هناك إقبالاً على نوع معين من قطرة العين، تحرينا، فاكتشفنا أنها تخلط مع بعض المواد المخدّرة لتزيد تأثيرها وتطيل مدتها». قناعة وصل إليها «سعودى» مفادها أن مهنة الصيدلة يحكمها الضمير فى المقام الأول: «مهما عملنا قوانين، فى الآخر الصيدلى مهنى يحكمه ضميره، علشان كده القانون لما ادانا سلطة بيع الدواء كان معاها سلطة أخلاقية». مع ذلك يعترف وكيل نقابة الصيادلة السابق بأن «فى المناطق الشعبية ممكن الصيدلى ينضرب لو رفض يبيع مخدر أو سرنجة، وبالفعل بيوصل له تهديدات، وفى أحيان كتير بيكون مجبر، وقليل الحيلة، لأنه حتى لو استعان بالشرطة وأنقذته، فسيعود إلى محل عمله ليتلقى عقابه ويقع فريسة للمدمنين وأصدقائهم من جديد، البعض يفرض عاداته من عدم بيع الممنوعات، والبعض الآخر يفشل، ولا أدعى أن الصيادلة ملائكة، كأى مهنة، منهم النبيل الذى يتبع أفضل السبل، ومنهم المجرم، ومع ضعف التفتيش وسيطرة الجنس النسائى عليه، نرى الكثير من الظواهر، خصوصاً أن وزارة الصحة لا تستجيب للمحاولات التى تُبذل من أجل تعديل الغرامات ولو بصورة استثنائية، يكفى أن من يقوم بتركيب دواء خطأ أو مغشوش عن عمد غرامته تتراوح من 20 إلى 50 ألف جنيه فقط، والنقابة دورها يتوقف عند النصح والإرشاد».