«طابور صباح»، و«تحية علم»، و«8 حصص»، ثلاثى يلتزم به التلميذ الذى يطمع فى «درجات الحضور»، على عكس «المزوغاتى»، الذى يتفنّن أكثر فى طريقة «الهروب» من المدرسة، حيث لا يوقفه «السور العالى» المفروش ب«الزجاج» أو الأبواب المغلقة فى وجهه، وبدلاً من «النط» و«التشبيك»، وإثبات الحضور فى «دفاتر الغياب» بات الطالب صاحب «قلب ميت»، يُفضّل الخروج من منزله بالزى المدرسى وتبديله فى الشارع، باحثاً عن مكان بديل يقضى فيه ساعات المدرسة الطويلة، رافعاً شعار «أنا مزوغ إذن أنا موجود». «الوطن» رصدت أسباب الظاهرة والأماكن التى يلجأ إليها «المزوغاتى». مع دقات «الثامنة صباحاً»، بوابات بعض مدارس شارع «الهرم» الإعدادية والثانوية «فنى - تجارى» حتى الفندقية ما زالت مفتوحة تنتظر دخول الطلبة حتى آخر وقت، وجرس يعلن بداية طابور الصباح، فى الوقت نفسه يُغير بعض التلاميذ مسارهم من الفصل إلى الشارع، فلم تعد الوسائل القديمة لإثبات حضورهم «نافعة»، فأصبح التزويغ «من بره بره»، وسيلتهم للبعد عن المدرسة التى تمثل لهم «مضيعة للوقت»، ومن بينهم كانت «شِلل» من مدرسة «الأورمان الثانوية الفندقية بالهرم»، يجتمعون فى السابعة صباحاً فى الشارع الموازى لمدرستهم، يقفون دائرة يتبدّل من بداخلها واحداً تلو الآخر بعد أن يقوم بتغيير زيه المدرسى ب«بنطلون جينز» يرتديه أسفل ملابسه التى يخرج بها من المنزل، دقائق ويكتمل عددهم وتبدأ وصلة توزيع «السجائر»، دخان ينبعث من أفواههم، وسط حوار شيق عن دفع المصروفات، حتى لا يتعرّض أحدهم للمنع من الامتحانات وتسلّم الكُتب، وبعدها يتم الاتفاق على مكان سيلجأون إليه بدلاً من «الوقفة فى الشارع»، فيهم أحدهم ليقول «يلا يا عم على القهوة، بدل قعدة الشارع»، يعترض أحدهم على القرار، قائلاً: «الفلوس معايا مش هتكمل»، ليهم ثالث «هنحاسب لك إحنا، هو أنت داخل تتغدى يعنى». «الشوارع الخلفية» و«المولات» و«القهاوى» و«البلاى استيشن» أماكنهم المفضلة لاستكمال مسلسل «الهروب».. والتزويغ غالباً ما يكون «عملاً جماعياً» وداخل إحدى المقاهى القريبة من الأهرامات الثلاثة، عشرات الطلبة «المزوغين» من مدرستى «الإيمان» و«الأورمان الثانوية الفندقية»، وبين «Wi-Fi» وطاولة وشيشة ومشروبات، تتشعّب أحاديثهم التى لا تخلو من الشتائم والسباب، أو الحديث عن مشكلاتهم مع أصدقائهم وصديقاتهن المقربات، وفى الطاولة نفسها التى يتجمّع عليها أكثر من 7 فتيان، يجلس صديقهم بين الملازم والكشاكيل، وعندما يحاول أحد أصدقائه تعطيله والمزاح معه تتبدّل ملامح وجهه المنهمكة فى التفكير، إلى أخرى غاضبة ويصيح عالياً: «أنا لو ماخلصتش الواجب بتاع الدرس هاتعلق.. سيبونى فى حالى».. صبى القهوة الذى يستقبل عشرات الطلاب لا يمانع فى جلوسهم، «ما دام بيدفعوا»، حسب قوله، مشيراً إلى أن الشباب نفسهم يترددون يومياً على المكان لقربه من المدرسة، وفى الوقت نفسه «مش مكشوف، يعنى فى حتة هادية، وفيه كل حاجة هما عاوزينها، نت، ولعب، وممكن كمان اللى عاوز يذاكر ومايدفعش أكتر من 5 جنيه». ومرت ساعة كاملة وما زالت أبواب مدرسة «النصر الثانوية التجارية» (بنات)، مفتوحة تمر من أمامها الطالبات ولا أحد يتابعهن، ليتأكد إذا دخل الجميع أم تخلفت مجموعة منهن عن الحضور، فبعض الطالبات يلجأن إلى محلات العصير أو المخابز للإفطار معاً، ومن ثم يكملن سيرهن فى الشارع والاستراحة على الأرصفة، الأمر الذى يُعرّض بعضهن للتحرش، سواء من طلبة الثانوى أو سائقى «التكاتك والميكروباصات» التى تركن صفاً أول بجوار المدرسة، ومن بينهن كانت «منة»، إحدى طالبات مدرسة «النصر»، التى تُبرر بقاءها خارج المدرسة حتى 9 صباحاً ب«ملل طابور الصباح»، فعدم حضورها لا يُشكل أزمة أو يحسب هذا لها غياباً، فتقول: «الباب بيفضل مفتوح واحنا بندخل بعد الطابور، هنعمل إيه جوه، فى الوقت ده نفطر ونتمشى شوية، وبعدين نشوف إذا كنا هنذاكر فى بيت واحدة مننا ولّا هندخل نقعد فى المدرسة»، لا يعكر مسيرة الفتاة التى لم تتجاوز 18 عاماً إلا مضايقات الشباب من المدارس الفندقية والثانوية المجاورة، فتصفهم: «على طول مزوغين، مش علشان يذاكروا، علشان يضايقونا أو يفضلوا قاعدين للى رايحة واللى جاية.. إحنا مش بنزوغ، بس مابنحبش نحضر الطابور، لأنه طويل ومش بيساعدنا على النشاط، بالعكس أنا باكسل أكتر، إنما دول لو يطولوا يباتوا فى الشارع هيعملوها». الضرب والإجبار على «الدروس الخصوصية» وقلة الشرح فى الفصول أسباب «هروب» الطلبة من المدرسة خطوتان تفصل بين مدرستى «النصر» و«المشير أحمد إسماعيل الإعدادية المشتركة» التى تقابلها، وفى الوقت نفسه يتبادل فيها الفتيات والفتيان على فترتين، الأولى من السادسة صباحاً والثانية 11 ظهراً، ففى اللحظة التى تخرج فيها الفتيات من المدرسة ويدخل البنون، يستغل الزحام مجموعة منهم ويركضون نحو «البلاى استيشن» الذى يستقر فى آخر الشارع. «الصراحة إحنا مزوغين»، ببراءة وعفوية شديدة اعترف «سامح»، الطالب بالصف الثانى الإعدادى، بإحدى مدارس فيصل (طلب عدم الإفصاح عنها)، أنه و3 آخرين من زملائه يهربون من المدرسة ويتجهون إلى شارع الهرم للتنزه واللعب طوال اليوم.. «سامح» الطالب الذى لا يخشى هروبه، يؤكد أن لديه أسبابه: «باروح انضرب فى المدرسة، والمدرس بتاع الدراسات بيضربنى دايماً، والأبلة بتاعة الإنجليزى مش بتشرح، هاروح أعمل إيه؟»، لا يعتقد الطالب ذو ال14 عاماً أن مأساة الإعدادية ستتكرر فى الثانوية، فيقول: «أنا هادخل ثانوية جوية علشان أبقى مهندس طيران، أحسن من اللى بنشوفه دلوقتى»، يوافقه صديقه «محمود» الذى يتمنى أن يلتحق بالعسكرية، ويرفض أن يلقبهم المجتمع ب«الفشلة». ب«العصا» أو «الشلاليط» يكون الجزاء الذى يتلقاه «محمد» الذى يُبرر أسبابه بأن المدرسة «عقاب»، فهو بداخلها «فاشل»، وخارجها «صايع»، ولا يجد فارقاً بين كلا اللقبين، لذلك يلجأ إلى الشارع، حيث لا وجود إلى «زعيق» أو 8 حصص لا يستفاد منها بشىء، «المدرس مش هنقول مش بيشرح، بس ماعندوش ذمة، يعنى مش بيبسط الكلام، ولو مافهمتش آخد درس أحسن، لأن العيب فيا، وطبعاً الباقى بيسكت علشان مايعقبناش»، بينما يلتقط من جديد «سامح» الحديث، ليقول: «المدرس بيدخل الفصل يفطر ويشرب الشاى، ومش بنشوفه بعد كده إلا لو فيه تفتيش، بيبقى واحد تانى». «فى آخر السنة المدرس اللى يطلع عنينا بنقطع وشه ونكسر عربيته، ما احنا كده كده هنسيب المدرسة»، الطريقة التى يلجأ إليها «محمد» وغيره من طلبة المدارس الحكومية التى يراها مختلفة عن الخاصة: «الطلبة جواها مرتاحين، مش حاسين باللى إحنا فيه»، ففى آخر كل عام، وبالأخص امتحانات (آخر السنة)، تشتعل رغبة الانتقام من المعلم الذى أذاقهم الفشل ودفعهم إلى الهرب من المدرسة لكرههم الشديد للممارسات التى تتم داخلها: «مش هيعرف يعمل لى حاجة زى ما أهلى لما بيروحوا يشتكوا مش بيعملوا معاهم حاجة، ويجيبوا الحق علينا، المفروض لو أنا شقى هو يساعدنى أبقى كويس، مش يذلنى قدام زمايلى»، يتفق الأصدقاء الأربعة على أحلامهم فى شكل مدارسهم إذا تطورت، أو أصبح أحدهم فى يوم من الأيام وزيراً للتربية والتعليم، ومنهم «سامح» الذى يتمنّى أن يكون فى يوم ما مسئولاً عن إصلاح المنظومة التعليمية، «مش هاجبر الطلبة وأهددهم، هالغى الدروس الخصوصية وهاخلى الحكومة زيها زى الخاص، فسحة وأنشطة، وهاطلب من المدرس إنه يفضل على طول بيضحك فى وش الطالب»، أما «محمود» فلم يخشَ تخطيه نسبة الغياب، لأنه يدرك الحل الوجيز: «هما 40 جنيه، ويرجع قيدى من أول وجديد.. واحنا بنعرف نظبط». «طالب مزوغ»: «من الكبت ممكن آخر السنة نقطع وش المدرس ونكسر العربية بتاعته» ورغم مشكلاتهم الكبيرة وظروف أسرهم المتوسطة، التى لا تمكن أياً منهم من الالتحاق بالتعليم الخاص، فإنهم فى نظر المارة «عيال فاقدة»، كما قال «عم رجب سعيد» (سائق التوك توك) الأربعينى، الذى اعتاد أن يسير فى شارع زغلول، المؤدى إلى مدرسة الأورمان، التى يؤكد أنها المدرسة «الأكثر تزويغاً»، بين طلابها، فيقول «العيل بيبقى قاعد قدام المدرسة ومحدش بيقول له ادخل، وبيدخن السجاير، ويعاكس فى البنات، وحاجة قلة أدب، ولو كلمته يقول لك خليك فى حالك، محدش منهم بقى بيحترم لا صغير ولا كبير». الرأى نفسه كان عند «عبدالحليم شحاتة» (سائق التاكسى)، الذى بُح صوته مع الكثير من الطلبة «المزوغين» أثناء عبورهم الإشارات فجأة ركضاً وراء فتيات مدارس الصنايع والتجارى، وجذبهن من الطرح، معلقاً: «جيل بيحب الأذية»، وبطبيعة عمله كسائق يلف فى الشوارع فإنه يرى الكثير من «المزوغين» فى 3 أماكن «المولات» أو «الملاهى» أو «الحدائق»، خصوصاً طلبة الثانوية بنين وبنات، وفق قوله. «محمد»، حارس ملاهى الأهرامات الثلاثة، يقول: «مش بيجوا كتير، ومعظمهم بيبقى معاه الشنطة بس مش بيبقى بلبس المدرسة». التزويغ خلال الحصص آفة مدارس البنين الإعدادية والثانوية وعزا الدكتور يسرى عبدالمحسن، أستاذ الطب النفسى، الظاهرة إلى أمرين، أولاً: المدرس، حيث يفتقد الطلاب إلى «القدوة»، قائلاً: «هيحس بإيه تجاه المدرس وهو مترسخ بداخله إنه بيشتريه بفلوسه، وإنه طول ما بيدفع له هو فى أمان»، فى إشارة إلى الدروس الخصوصية، والثانى: المدرسة، لأن المدرس وحده لا يستطيع فرض سيطرته من دون وجود إدارة قوية تعمل معه وتسانده، قائلاً: «اختفى التفتيش واجتماعات الأهالى حتى خطابات الإنذار مابقيتش توصل»، ومن المدرسة إلى المنزل تكتمل أضلاع مثلث «التزويغ»، فالأسرة ترفع شعار «المهم عندى تنجح»، ولم تعد مهتمة بالحفاظ على مستوى ابنها، سواء التعليمى أو النفسى، منبهاً: «لو الطالب عرف أنه فيه صلة بين البيت والمدرسة هينصلح حاله». الدكتورة بثينة كشك، مدير مديرية التربية والتعليم ووكيل الوزارة بمحافظة الجيزة، تؤكد أن عقوبة «التزويغ» متدرّجة، بداية من «الإنذارات» و«إبلاغ الأسرة»، ثم يعقبها الفصل والعودة ب«إعادة قيد». وأشارت «كشك» إلى أن المدارس غير مسئولة عن هروب الطلبة ما دامت أثبتت غيابهم فى دفاتر رسمية، «بكده تبقى أخلت مسئوليتها».