أثارت الاقتراحات المطروحة على الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد الدستور المصري الجديد بشأن وضع السلطة القضائية في هذا الدستور وطلب توحيد القضاء تحت سلطة واحدة مع إنشاء مجلس واحد ينظم أمور المحاكم دون وجود اختصاص ولائي ردود فعل متباينة - خاصة بين رجال القانون - ما بين مؤيد ومعارض لها . ولما كانت السلطة القضائية سلطة من سلطات الدولة التي تتسم بالاستقلال ،وتأتي على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية ، فوجدنا أنه من الأهمية أن نطرح أمام القارئ الكريم صور الأنظمة القضائية المتعارف عليها حتى نستطيع اختيار النظام القضائي الذي يتناسب مع بلدنا العزيز الغالي مصر للنص عليه في الدستور المصري الجديد . وقبل أن نشرع في عرض هذا الموضوع نشير في البداية إلى حقيقة مؤكدة مفادها أن القضاء متى كان مستقلا ومحايداً يمثل حصناً منيعاً لأفراد المجتمع لحماية حقوقهم وحرياتهم ، كما يعد ملاذاً أساسيا لطلب العدل والإنصاف ، وضمانة فعالة لسيادة الشرعية القانونية . والواقع أن استقلال رجال القضاء يسبغ عليهم سمة الحيدة والنزاهة في أحكامهم ، ويجعل منهم حراساً أمناء على تحقيق العدالة بين الناس .والجدير بالذكر في هذا المقام أن الرقابة التي يمارسها القضاء على أعمال وتصرفات الجهاز الحكومي بالدولة لها أهمية كبرى وفاعلية أكيدة في احترام حقوق الأفراد وحرياتهم . وإذا كان ذلك كذلك فإن هذه الصورة من صور الرقابة القضائية لا تباشر في كافة الدول بذات الأسلوب إذ هناك من الدول ما يجعل تلك الرقابة من اختصاص القضاء العادي يباشرها إلى جانب اختصاصه بنظر منازعات الأفراد، وبالتالي لا يوجد في هذه الدول سوى هيئة قضائية واحدة يكون اختصاصها شاملا لكافة المنازعات التي تثور في المجتمع أيا كانت طبيعتها أو أطرافها ، وتعرف هذه الدول بأنها ذات النظام القضائي الموحد . في حين توجد دول أخرى تجعل الرقابة القضائية على أعمال وتصرفات الجهاز الحكومي بالدولة من اختصاص قضاء متخصص ينشأ خصيصاً لهذا الغرض ويوجد بجانب القضاء العادي ويطلق على هذا النوع من أنواع القضاء مسمى القضاء الإداري ،وبذلك توجد في هذه الدول جهتان قضائيتان ، إحداهما تختص بنظر المنازعات التي تثور بين الأفراد ، والأخرى تختص بنظر المنازعات الإدارية ، وتطبق قواعد القانون الخاص على المنازعات الأولى وقواعد القانون الإداري على المنازعات الثانية ، وتعرف هذه الدول بأنها ذات النظام القضائي المزدوج ولبيان ذلك نلقي نظرة سريعة على النظامين السابقين للتعرف على مزايا وعيوب كل منهما لاختيار أفضلهما للنظام المصري . فيقصد بنظام القضاء الموحد أن تفصل جهة قضائية واحدة في كافة المنازعات التي تثور في المجتمع ، سواء المنازعات التي تثور بين الأفراد فيما بينهم أو الأفراد والجهاز الحكومي للدولة ، أو التي تثور بين أجهزة الحكومة ذاتها ، بما مؤداه أن هذه الجهة القضائية ممثلة في كافة محاكمها على اختلاف أنواعها ودرجاتها تتولى الفصل في جميع المنازعات الإدارية والمدنية التي تطرح عليها السواء . وفى سبيل تقييم نظام القضاء الموحد يرى رجال الفقه أن هذا النظام يتسم ببعض المزايا منها : احترامه لمبدأ الفصل بين السلطات ، واحترامه لمبدأ المشروعية ، وتحقيقه لمبدأ المساواة والعدالة لأفراد المجتمع، وبعده عن التعقيد . وعلى الرغم من ذلك فأنه يؤخذ على هذا النظام عدة عيوب منها : عدم تقديره لإختلاف طبيعة العلاقات الإدارية عن علاقة الأفراد مع بعضهم البعض، كما أن الدول التى تطبق هذا النظام اتجهت نحو التضييق من اختصاص المحاكم العادية في نظر المنازعات الإدارية مما يعد بمثابة دليل دامغ على عدم جدوى هذا النظام وعدم قدرة المحاكم العادية على مواجهة مشكلات الأجهزة الحكومية التي تتسم بشدة التعقيد . وفيما يتعلق بنظام القضاء المزدوج فيقصد به أن هناك قضاء إداري متخصص يقف جنباً إلى جنب مع القضاء العادى يتولى الرقابة على أعمال الهيئات الإدارية ، وبالتالي لا تخضع أعمال وتصرفات الأجهزة الحكومية لذات القواعد والمبادئ التى تخضع لها الأفراد ، وإنما تخضع لقانون خاص يعرف بالقانون الإداري ، فليس من المنطقى فى شيء أن يخضع النشاط الإداري لذات القواعد التي يخضع لها النشاط الخاص الذي يباشره الأفراد، وذلك لإختلاف الأساس الذي يرتكن إليه كل منهما ، على اعتبار أن النشاط الإداري يستهدف المصلحة العامة ،في حين أن نشاط الأفراد يستهدف تحقيق المصلحة الخاصة ، وفضلاً عن ذلك فأن المحاكم العادية لا يتوافر لقضاتها التأهيل الفني والإداري الكافي ولا التخصص اللازم للفصل في القضايا التي تكون الأجهزة الحكومية طرفاً فيها . وفي سبيل تقييم نظام القضاء المزدوج يقرر الفقه أن هذا النظام يتسم ببعض المزايا منها : ملاءمته لإختلاف طبيعة النشاط الذي تباشره الأجهزة الحكومية أو الإدارية عن النشاط الذي يباشره الأفراد ، كما أن القضاء الإداري في الدول التي تطبق هذا النظام أكد على أنه حصن منيع لحماية حقوق وحريات الأفراد ، كما أخذ الفقه على هذا النظام بعض العيوب منها : أنه قد يؤدي إلى تنازع الاختصاص بين القضاء العادى والقضاء الإداري ، كما أنه قد يسعى إلى تغليب مصلحة الأجهزة الحكومية على مصلحة الأفراد عند فصله في المنازعات التي تثور أمامه وأياً كان وجه الرأي في النظامين السابقين فإننا نعتقد أن نظام القضاء المزدوج يتسم بمزايا عديدة ومؤكدة ويؤدي إلى صيانة وحماية حقوق وحريات الأفراد بشكل فعال بحسبانه قضاء متخصص ويطبق قواعد ومبادئ تتناسب مع طبيعة المنازعات المطروحة أمامه واختلاف أطرافها . وفيما يخص الرقابة على دستورية القوانين فهناك دول تعتنق أسلوب لا مركزية الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، والذى بمقتضاه تملك جميع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها الحق في بحث دستورية القوانين ، كما توجد دول أخرى تعتنق مبدأ مركزية الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، والذي يعني جعل الرقابة على دستورية القوانين من اختصاص محكمة واحدة متخصصة فحسب ، تنفرد بهذا الاختصاص دون غيرها . ونرى مع بعض رجال الفقه أن النظام الثانى أفضل بكثير من النظام الأول على اعتبار أنه يتسم بمزايا عديدة وقد أثبت كفاءة وفاعلية أكيدة في صيانة الدستور وحماية أحكامه في الدول التي تأخذ به.