الكاتب المصري أحمد مراد يستعيد في روايته «1919» زَمنًا كاملا بواقعه الاجتماعيّ المزري، الذي انتشرَ فيه البغاء وصارت له بيوته المُرخّصة، وبأمراضه التي فتكتْ بالفقراء. يتخلى الروائي المصري أحمد مراد، في روايته الرابعة «1919» الصادرة عن دار الشروق بالقاهرة سنة 2014، عن عَوالمه السردية التي تَميلُ إلى التَّشْويقِ والإثارةِ وَالحِسّ البوليسي في رواياته «فيرتيجو» و«تراب الماس» و«الفيل الأزرق»، ليقدِّمَ عالمًا مغايرًا حيث يرتحل إلى التاريخ بأحداثه وشخصياته، فيزاوج بين التاريخي الذي يبدأه مِن أحداث «هوجة عرابي» وقيام ثورة 1919 ودور سعد زغلول والوفد في المفاوضات، وبين الخيالي حيث حكاية مجتمع آخذ في التّشكُّلِ بعد الحرب، يتخلّلها حُبٌّ مُجْهَضٌ وَأَجْسَادٌ مَقْهُورَةٌ. يتخذُ أحمد مراد مِن التاريخ بأحداثه المُهِمّة وباحتدام الصّراع القائم بين الدوائر السِّياسية والاستعمار محورًا مُهِمًّا وخلفية للحكاية الخياليّة التي ترتبطُ عناصرها بالتاريخيّ، عبر علاقات أقامَ وشائجها الكاتب ودعّمها بعنصر الخيال، فبعثَ الحياة في التاريخي الصّرف، بحكايات وحوارات متخيّلة. مشهديات مصرية مِن المُمكن قِراءة النّص في أَحدِ مستوياته على أنَّه نَصٌّ سِيري يكشفُ به الكاتب النِّقَاب عن شخصية مُهمّشَة مِن ثوّار 1919، في تعريض لدور المُهَمَّشين الذين تَنْسَاهم الثَّورات، وهي شَخْصية المُناضِل أحمد عبد الحي كِيرة، الذي اُستخدم كورقة ضغط في النِّضال ضدّ المُستعْمِر، تَسيرُ بشكلٍ مُوازٍ مع النِّضال السِّياسي و"التفاوضي" ل "الوفد" وقد جاء ذكره هكذا «فدائي عظيم من الجهاز السرّي للثَّورة»، و«بطل منسي تعاون مع حزب الوفد للقيام بعمليات اغتيال تستهدف ضباط الجيش البريطاني» حسب ما أوردت جريدة الوفد بتاريخ 17 آب/ أغسطس، كما التقاه الأديب يحيى حقي عام 1930 في إسطنبول بعدما تمّ تهريبه إليها، بعد حادثة مقتل «السير لي ستاك» عام 1924، أثناء عمله كموظف في القُنصلية المصرية في إسطنبول وكتب عنه تحت عنوان «بعبع الإنجليز»، كما وُصف في كتب المؤرخين بأنه «يُجِيدُ التنكُّر والتخفّي والتحدُّث بلغات مُخْتَلِفَة». لا يستعيدُ الكاتب زَمنًا تاريخيًا بأحداثه أو شخصياته الحقيقية التي كان لها دورها ولها مرجعيتها التاريخيّة فقط، وإنما يستعيدُ زَمنًا كاملا بواقعه الاجتماعيّ المزري الذي انتشرَ فيه البغاء وصارت له بيوته المُرخّصة، وبأمراضه التي فتكتْ بالفقراء، وبالسُّخرة التي قَضت على الشَّباب، وأيضا بفنه وفنانينه كالكسار وحسن فايق ونجيب الريحاني وبديعة مصابني، وما أدخلوه مِن عَوالم مُتعة وإبهاج وأيضًا بسياراته المُخْتَلِفَة (الدو كار والسواري والأمنيوس والحنطور) وبملابسه السّائدة، وبعروضه السينمائية، ووسائل ترفيهه وكازينوهاته (بار كافيه إيجبسيان) ومقاهيه التي لعبت دورًا محوريًا في النِّضال كمقهى ماتتيا وريش، وأيضًا بشوارعه، وبألقابه وفوق هذا جميعه بمعجمه اللُّغوي الذي كان سَائدًا وقتها، وكأنَّ الرِّواية لوحة فنيَّة تعكس هذا الواقع بكافة تفاصيله. غسل العار يأخذ السَّرد في الرِّواية خطين متوازييْن ومتلاحميْن في الوقت ذاته، الخيط الأوّل هو الخيطُ السّياسي لثوّرة 1919، وحركة النِّضَالِ نحو الاستقلال في صورة الزّعيم سعد زغلول، وحياته الشّخصية مع اختلاف مواقفه المتباينة بين القوة كما هو ظاهر في حالة وقوفه أمام الملك أو أمام الإنكليز مطالبًا بحق بلاده في الاستقلال، ومواقف ضعفه أمام ديونه وهواية القمار التي فَشَل في التخلُّص منها وكذلك في مفاوضاته، وتحولاته التي عكست أن لعبة السياسة لها حساباتها الخاصة. والخيط الثاني عن وقود الثوّرات الحقيقي، المتمثِّل في الإرادة الشَّعبية والدور الحقيقي الذي تلعبه، في إشعال الثورة وتكبيد العدو خسائر تجعله يقبل ما لم يتخيّل أن يضعه على طاولة المفاوضات، بعرض نماذج متعدِّدة تكشف الرُّوح الوطنية التي تَسري في المصريين، نماذج هي وقود الثورات الحقيقيّة، كنماذج أحمد عبد الحي الشّاب المثقف والموظف في مدرسة الطب، والحَالم أيضًا الذي ضحّى بمستقبله في سبيل الانتقام مِن الإنكليز الذين أعدموا والده بسبب اشتراكه مع عرابي فكان كبش الفداء، وانتهى به الحال لأن تطوى جثته في مقابر المجهولين في إسطنبول بعدما قدَّم نفسه وروحه فداءً للثوّرَة، وكذلك دولت عبدالحفيظ الصعيدية، مدرسة اللُّغة الإنكليزية نموذجٌ للفتاة المصرية التي جَاءَ دورها تأكيدًا لمقولة سعد باشا أنه «لا توجد ثورة دون امرأة»، دون التقليل مِن الدور الذي قامتْ به نساء مصر مع اندلاع الأحداث، لكن مع الأسف كانت ضحية لأنساق بالية ربطت بينها وبين ابن عم لها، لا جامع بينهما غير نسب الدم، ثم يُجهز عليها أخوها ياسين في لحظة بطولة وهمية مُفتقدة، عندما أُمر بقتل أبناء بلده أثناء حفر القناة، يقتلها بناءً على إشاعة يستعيد بها رجولة غائبة بامتثاله لقانون الشرف الذي يدعي أن أخته لثمته على حدّ قوله لأمه «فَجرت... عِشجِت... فضيحتها في مصر على كل لسان»، فيذبحها بعد أمر أمه له «خلِّيك راجل... اغسل عارك». لا ثورة من دون إمرأة حرة وبالمثل عبدالقادر الجنّ الذي تحوّل مِن شَابٍّ طائشٍ له عَلاقات نسائية وأخرى مريبة مع الإنكليز من خلال ما يورّده لهم بسيارته، وهي نقطة الخلاف بينه وبين والده شحاته الجنّ فتوة الحيّ، لكن بعد وفاة والده على يد الإنكليزي أرثر يتحوّل إلى شخص آخر يذهب بنفسه لاقتحام الكامب، ثم يُطلق صراحه لينخرط في الثورة ويصير نموذجًا إيجابيًا بفعل الحبّ الذي تسرّب إليه وهو يراقب دولت رغم حالة الصدِّ التي عاملته بها في أوّلِ الأمرِ، لكن بعد العملية الأخيرة اغتيال محمد شفيق باشا وزير الأشغال بقنبلة وإلقاء القبض عليه، تعترف له بأنها تحبه إلا أنها كانت تقاوم لأسباب كثيرة، قد بدأ التغيير عنده منذ مساعدته لتهريب وَرْد بعد إلقائها وابور الكيروسين على وجه سلامة، وإعطائها ساعته، ثمّ يتكرّر الأمر مرّة ثانية عندما يخرج هو وأحمد من المسرح وكان بالخارج سلامة وكاد أن يفتك بوَرْد، فيتصدى له حتى تهرب، وموقفه من عودة أحمد، العجيب أنه هو الشخص الوحيد الذي نجا، ربما لأنه الوحيد الذي تحوّل هدفه بالثورة من الانتقام الشخصي لأبيه إلى انتقام للوطن، فأحمد كان ينتقم مما حدث لأبيه في الماضي أما نجيب الأهواني فكان ينتظر الجزاء على ما فعل، وعندما لم تقدِّم الثورة ما كان ينتظره على الفور انتقلَ إلى مَوقعِ الخصم. كما تكشف عن الوجه القبيح للثورات وهي الإشارة التي ترتد إلى ثورة يناير، حيث أن الثورات تأكل أبناءها وتضحى بهم، والنموذج الأبرز هو شخصية نجيب الأهواني الذي قضّى في السجن تسع سنوات بعد إلقائه قنبلة على السلطان حسين عام 1915، ولم يُصرِّح بأسماء مَن كانوا معه في العملية، بمن فيهم صديقه أحمد، وعندما يتولى سعد زغلول تشكيل الحكومة بعد حصول الوفد على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات، يلتقي النحاس بصفته سكرتير الوفد، فما إن يعرض عليه وظيفة كاتب في أحد البنوك حتى يعترض، على تقسيم الكعكة، مُندِّدًا بسعد نفسه الذي صار رئيسًا للوزراء، ثم يتحوّل مِن وطنيّ إلى خائن يتعاون مع المحتل الإنكليزي بالإرشاد على أحمد، حتّى وإن انتهى مصيره بالقتل، فالقتل في نهاية الرواية يكشف الصِّراع على السُّلطة بعد تقاسم الكعكة، وهي الصورة المشابهة للواقع الآني والتي تتقاطع معا، بعد أن تقافزَ الجميع على الثورة والاغتراف منها لجماعته وأنصاره. ومِن ثمَّة فالحقيقة التي لم يُدْركها ثوَّار الماضي وكذلك ثوَّار الحاضر أن «تحرير مصر الحقيقي تطهير الناس من الخونة». سينما في رواية يعمدُ بناء النّص إلى التقنيات السينمائيّة حيث التقطيع ونظام المشاهد والكادرات البصرية الداخلية والخارجية، وهو ما يبرزُ في العناوين الفرعيّة التي تؤكِّد على أنّ النّص مكتوبٌ بلغة السينما، فالكاتب ينتقل من مشهد إلى مشهد، وعندما يعود إلى المشهد السابق، يبدأ من النقطة التي انتهى إليها، بالإضافة إلى الاستفادة من تقنية الوصف التي ساعدت في نقل أجواء العصر الذي تدور فيه الرواية وهي الفترة التي واكبت قيام الثورة، كما يبدأ النص بسرد تلخيصي أشبه بالشريط السينمائي السريع الذي يعرض أحداثًا من الماضي لضرورتها في اللحظة الحالية التي يدور فيها الحدث، وهو نفس الشيء الذي اعتمد عليه في النهاية حيث يقدِّم لنا نهايات الشَّخصيات الحقيقيّة في عجالةٍ، كما أن الحركة والسرعة التي هي أداة من أدوات الكاميرا السينمائية حاضرة في المعارك والاغتيالات، وحالة التخفي والهروب من الملاحقات الأمنية، وهو ما ظهر بصورة رائعة في مشهد مطاردة عبدالقادر بعد تفجير موكب وزير الزراعة، وأيضًا في مشهد القتال بين الأصدقاء في إسطنبول.