كانت موسيقى"البوليرو" تملأ فضاء الغرفة. تريد حقا أن ترقص. شاهدت راقصة الباليه مره في برنامج "مع الباليه" التلفزيوني , وهي ترقص علي الموسيقي الجميلة لرافاييل. راحت تحرك ساقيها على إيقاع الموسيقى . متى تمتلك حقا حرية الفراشة؟ إنها تذهب مع نادر إلى حديقة النزهة لتبادل القبلات، وإلي منطقة "سموحة" حيث الأشجار الكثيفة والفراغ ، والفلل القليلة جدا التي تبدو خالية من سكانها . لا يراهما أحد وسط الاتساع الهائل المليئ بأشجار النخيل والكافور والصفصاف وأشجار الموز,وهما يتبادلان الأحضان والقبلات . وفي كل مرة رغم ما يتحرك فيهما من بهجة، يشرد نادرويقول متى نكون معا بين جدران أربعة لا نخاف أن يرانا أحد؟ تعرف أنه يدعوها إلى الشقة التي يقيم فيها مع أصحابه ، زملاؤهما في الكلية . تربّت على يده ولا ترد ، و تقمع رغبة داخلها , رغبة كبيرة في الإجابة بنعم . لكنها ضحكت الآن وجلست إلى مكتبها . نظرت إلى كتاب الفلسفة الحديثة، المفتوح من قبل على درس عن"نيتشة". قالت هي ليلة"السوبرمان" . وقبل أن تعاود المذاكرة , سمعت طرقات خفيفة على الباب ثم انفتح . كانت أمها وقد إتسعت عيناها بدهشة وحيرة وهمست: - كاريمان! إندهشت يارا أكثر فعادت الأم تقول : - إنها واقفة في الخارج . رأيتها من العين السحرية بعد أن دق الجرس . هل أنتما على ميعاد؟ قالت يارا في دهشة أكبر: - لا. لماذا تأتي في هذا الجو؟ أجابت الأم: - بسرعة أخرجي افتحي لها الباب. قطعت يارا الصالة الكبيرة التي يجلس فيها أبوها مندمجا مع الفيلم . عادت أمها تجلس جوار أبيها. كلاهما في ملابس منزلية شتوية فوقها روب أنيق، وأمامهما طبق به الكاجو والفستق وعين الجمل . " المكسّرات" التي غابت عن مصر طويلا أيام عبدالناصر, ثم عادت تغزو الأسواق غالية الثمن . ----------- كانت الساعة قد دخلت في العاشرة ، ونادر لايزال يجلس في الصالة الصغيرة ذات الضوء الكابي ، ويشعر أنه في مكان قديم لم يمر عليه من قبل أحد. أكثر من ساعة وهو ينتظر, ولا ينقطع صوت الأنين الذي لا يعرف مصدره . المخبر الذي وصل إلى بيته في حوالي الخامسة مساء , أعطاه ورقة صغيرة , تعلنه أن يذهب الليلة إلى مقر مباحث أمن الدولة بشارع الفراعنة في الساعة الثامنة والنصف . لم يستغرق الأمر غير دقيقة عند الباب حين خرج ليرى من الطارق وعاد واجما. كان أبوه قد أنتهى للتو من صلاة المغرب، وأمه في المطبخ تعد صينية السمك ، وأخوه الصغير مع الأم في المطبخ يستعجل الطعام . رآه أبوه يعود واجما فسأله: - من كان بالباب؟ لم يرد نادر للحظة بدا فيها شاردا ثم قال: - لا أحد . شخص أخطأ في العنوان. يريد جيراننا. ودخل إلى غرفته صامتا. غرفة بسيطه بها سرير قديم ، ومكتب قديم ، ودولاب معدني قديم أيضا، وأرفف خشبية على الحائط عليها عدد قليل من الكتب. تعوّد أن يستعير الكتب من مكتبة الكلية، ومكتبة البلدية، وأكثر الكتب الصادرة حديثا إن لم يستطع شرائها يستعيرها من عم السيد، بائع الكتب في محطة الرمل , نظير قرش صاغ للكتاب،أو قرشين،أو حتى خمسة قروش إذا كان الكتاب غاليا. روايات دستويفسكي تشغل مكانا واضحا بين الكتب بحجمها الكبير. لماذا حقا كان حريصا على شرائها رغم أنه كان يمكن أن يستعيرها أيضا؟ ولماذا قرأها دائما في ليالي الشتاء الباردة وصوت المطر كما هو الليلة لا يكف عن الوصول إليه ؟ يحلم دائما بيوم يزور فيه روسيا ، ويسهر حتى الصباح وسط ليالي الجليد البيضاء . كان قد أنتهى اليوم من قراءة رواية "دكتور زيفاجو" بعد أسبوع من المتعة والألم . توقف عند الأشعار الأخيرة . توقف عند كل شيء فيها , ويردد الآن لنفسه. "لا يزال ظلام الليل مخيما ولم يحن بعد للفضاء أن ينثر حتى هذا الوقت نجومه التي لا تعد ." دائما بينما كانت "لارا" تجري أمامه في فضاء الحقول، والبنايات التي يحاصرها الجليد والموت، والحرب ومعسكرات الإعتقال , كان اسم حبيبته يارا ووجهها يمشيان فوق صفحات الرواية , ويجد نفسه يقول يارا. يارا. وكثيرا ما يقرأ لارا يارا , ويطرد عن نفسه هاجس الفراق الذي أصاب لارا وزيفاجو. في هذه اللحظات وهو في غرفته كانت مقطوعة " مارش السلاف March Slav " لتشايكوفسكي تملأ من الراديو الفضاء حوله . وكما يحدث في كل مرة يندهش كيف ينطقها المذيع "مارش العبيد". ولاينتبه إلى أن السلاف "Slav" أسم جنس بشري وليس العبيد Slaves. لا ينسى ما قاله الدكتور حسين فوزي ، السندباد المصري ، في أحد دروس الموسيقى التي يقدمها مساء كل خميس بالبرنامج الثاني بالراديو, كيف كتب تشايكوفسكي اللحن للأوركسترا حين انقلبت صربيا الأرثوذكسية ضد الدولة العثمانية عام 1876، ووقفت روسيا الأرثوذكسية أيضا مع صربيا ، وأرسلت جنودها ليحاربوا معها . كان اللحن تمجيدا للشعوب السلافية ضد العثمانية . لكن ليس ذلك مهما الآن ، فهو مرتبك لا يعرف ما سيحدث الليلة ، والرجل الذي جاءه بورقة الاستدعاء , لابد يمشي الآن تحت المطر والريح ، أو يقف بينهما على شاطئ المكس الخالي ينتظر الأوتوبيس . هل استدعاؤه أمر مهم جدا ليأتي هذا الرجل وسط هذا الجو وبهذه السرعة؟ وماذا يحدث لو لم يذهب؟ كانت ساعة مع الموسيقى العربية قد بدأت بأغنية "سجى الليل" لمحمد عبد الوهاب , والتي كتبها الشاعر أحمد شوقي ، ولدهشته الكبيرة ، وجد نفسه ينسى أمر الإستدعاء, ويفكر كيف أن لحن أغنية سجى الليل قائم على مساحة لحنية من مارش السلاف . أدهشه الإكتشاف وابتسم . فكر كيف لم يدرك ذلك من قبل، ولا أدركه أحد من نقاد الموسيقى اللذين يتهمون محمد عبدالوهاب دائما بالسرقة من الموسقى الغربية . لكنه أحب أن محمد عبدالوهاب كان يعرف في وقت مبكر جدا موسيقى تشايكوفسكي ! وأعجبه أن يدرك ذلك هو أو يفكر فيه , رغم القلق الذي يشمله من هذا الإستدعاء المفاجئ . إذن هو قادر على مواجهة الإستدعاء . لكنه عاد يسأل نفسه لماذا لم يعرف حقا من المخبر سبب استدعائه؟ لم يكن ليجيب. لقد تناول منه الورقة واجما كأنه كان ينتظره . لفت نظره فقط كف الرجل الكبيرة, الأكبر مما تعود أن يرى من أيادي الناس , وهو يسلمه الورقة! رأى أمامه رواية دكتور زيفاجو مفتوحة على آخر صفحة فأغلقها. جاءته رائحة السمك الشهية وقد فتحت أمه باب الغرفة وقالت باسمة: - صنية سمك تحلف بيها. تعال تعشي. - شبعان. إندهشت وقالت: - لا.. بابا اشترى المياس اليوم مخصوص من أجلك . اشترى اثنين كيلو بثلاثة جنيهات دفعة واحدة. لم يتحرك من مكانه. سألته وهي تنظر إلى عينيه: - مالك يا نادر. ماذا يشغل بالك؟ - عندي مشوار مهم . أحد أصدقائي مريض ولا بد أن أزوره. - في هذا الجو؟ - إعذريني يا ماما. ثم إنك تعرفين أني أحب المطر. لم يبد أنها أقتنعت. رأى ذلك على وجهها. قال: - طيب.هاتي لي الأكل هنا. وجد ذلك حلا حتى لا يأكل بينهم وهو شارد . بسرعة عادت بالصينية ، فوقها طبق كبير به سمكتان من المياس الكبير مشويتان ، وطبق آخر به أرز أحمر. سمكتا المياس تحوطهما شرائح الطماطم والبصل والفلفل وقليل من شرائح البطاطس. هذه الوجبة التي يعشقها هل تنسد نفسه حقا عنها؟. بدأ يأكل على مهل ، ثم لم يستطع أن يقاوم . لابد أن يظهر لأمه الفرح الذي تعودت عليه منه حين تطهو السمك. لن يتركها أبدا في قلق تفكر بالذي يشغله عن أكلها الذي يحبه . إنتهي وارتدى ملابسه بسرعة . بنطلون وقميص فوقه بلوفرفوقه جاكيت شمواه ، وغادر البيت بعد أن أخبر والديه أنه سيبيت الليلة مع أصحابه بعد أن يزور صاحبه المريض . يعرفون أنه يقضي أكثر ليالي العام الدراسي مع أصحابه الغرباء عن المدينة، في شقة استأجروها بالقرب من الكلية. في البداية لم يكن أبوه راضيا عن ذلك ، لكنه يراه يقضي وقته كله في القراءة ، ويعرف أنه مشغول بها عن أي شيء آخر، لذلك اقتنع بما قالته له الأم ، وماذا سيفعل نادر مع أصحابه غير ما يفعله هنا. القراءة ؟. بسرعة كان يقف على شاطئ المكس , عند نهاية خط الأوتبيس رقم"1" , خلفه كازينو"زفير" المغلق منذ زمن ، ونادي المجد الرياضي الذي لا يزيد عن شقه في البيت الصغير، بها صالة للفرجة على التلفزيون , وغرفة للعب البنج بونج. وجوار البيت"كشك" سجائر عم أحمد العجوز، وأمامه كالعادة محطة السكة الحديدية القديمة , التي لا تمر عليها القطارات , ولا يعمل فيها أحد . لم يتأخر الأوتوبيس في الوصول . توقف فنزل منه رجلان أسرعا وسط الريح والمطر، وعم أحمد الذي رآه يقف أمام نادي المجد وتحت البلكونه سأله: - إلى أين تذهب في هذا الجو يا أستاذ نادر؟ كان نادر ينظر إلى الأمواج الهادرة العالية يتمدد صوتها في الفضاء , ويكاد يدخل في بعضه من البرد. قال: - مشوار مهم يا عم أحمد. - ربنا معاك ياابني . أسرع داخلا الأوتوبيس الذي لم يغادره سائقه، بينما نزل الكمساري في اتجاه عم أحمد , وعاد مسرعا يحمل زجاجة"سباتس" , وقال للسائق وهو يرفعها أمامه: - لا يفلّ الحديد إلا الحديد. إذن لا يفل البرد إلا البرد. ثم قال لنادر: - أهلا يا أستاذ . قرأت مرة في الجورنال أنهم في روسيا يأكلون الآيس كريم في عز البرد , ونحن لسنا أقل منهم. إبتسم نادر، وقدم له قرش صاغ ثمن التذكرة ، فقال الكمساري للسائق: - لا تنتظر. لن يخرج أحد من بيته الليلة إلا هذا الأستاذ المجنون . هيا بنا. إبتسم نادر من جديد وتحرك السائق بالأوتوبيس . راح نادر ينظر إلى نوافذ البيوت القديمة . كلها مغلقة . كذلك نافذة شقتهم . سرعان ما مرّ الأوتوبيس بمساكن خفر السواحل المنخفضة الصامته أيضا لا يظهر بينها أحد . سيدخل الأوتوبيس في شارع المكس ، وسيرى في طريقه كل شئ صامتا. مخازن الجيش على اليمين ، والسلخانه وشركات دباغة الجلود على اليسار تتسلل رائحتها إلى الفضاء. سيمر على مدرسة الورد يان الثانوية للبنات ، ومدرسته قديما، طاهر بيك الإعدادية ، وسيمر على مقهى خفاجي الذي سيظهر خلف زجاجه بعض الحضور كالأشباح وسط الظلام. هل يكون عيسى سلماوي هنا الليلة في المقهى القريب من بيته , ولا يذهب إلى اتينيوس في محطة الرمل؟ يقول لهم إنه دائما في الصباح في مقهى خفاجي، ودائما في المساء بأتينيوس . هل يكسر القاعدة الليلة بسبب المطر والبرد؟ وهل يترك هو الأوتوبيس و يخبره بأمر الإستدعاء؟ لا. ليذهب ينهي كل شئ وحده. كان الأوتوبيس قد تجاوز شارع المكس , ودخل إلى منطقة مينا البصل , ثم إلي شارع السبع بنات ، والمنشية , ولدهشته حين وصل الأوتوبيس إلى محطة الرمل كان خمسة أشخاص قد ركبوا طوال الطريق ولم يفطن لهم . مشي وحده إلى شارع الفراعنة . كان المطر قد صار خفيفا وهو يمشي في شارع صفية زغلول الذي أغلقت كل محلاته تقريبا ، ثم عرج إلى شارع السلطان حسين ، ولما دخل شارع الفراعنة وقف أمام الفيللا التي صارت مقر مباحث أمن الدولة . رأى الأشجار العالية التي تحيط بها . الظلام في الشوارع الجميلة المحيطة . النور الشحيح الذي يأتي من الفيللا . كانت الساعة الثامنة والنصف . تماما حسب الموعد . لكنها الآن العاشرة ولم يدخل بعد إلى صاحب الاستدعاء. لم يتغير النور الشحيح في الصالة ، ولم ينقطع الأنين الذي لا يعرف مصدره. لكن رجلا قصير القامة ظهر أمامه فجأة ، دون أن يحدث أي صوت ، وأشار إلى باب غرفة في نهاية الصالة ، كان موصدا طوال الوقت لم يدخل ولم يخرج منه أحد ، وقال: - تفضل. نهض بسرعة وتقدم , لكن الرجل أمسك بذراعه لحظة ثم قال : - أفضل شيء أن تقول الحقيقة لتخرج بسرعة. ستقابل سيد بيه عبدالباري رئيس مباحث أمن الدولة. هو رجل طيب ولا تضايقه. قال الرجل القصير ذلك برفق واختفى . لم ينتبه نادرأين اختفى الرجل حقا من أمامه . كما لم ينتبه من قبل من أين ظهر ! ---------