بقلم إبراهيم عيسى من حق الشعب أن يحب من يريد. ليس بالضرورة كل من يحبه الشعب يستحقّ، لكن لم يحدث أن خيّب زعيم أحَبَّه الشعب مُحِبِّيه. وقد مات السابقون والشعب عنهم راضٍ، بل خرج الناس يودّعون زعماءهم المحبوبين بمنتهى الوله والولع، من مصطفى كامل وسعد زغلول والنحاس حتى عبد الناصر والسادات. على رأى عبد الرحيم منصور فى أغنية لمحمد منير «مافيش كسوف فى المحبة ولا للمحبة شروط/ عمرك ما تشعر بغربة/ إلا ف حنين مكبوت». حب الشعب لرجل يضعه فى مصافّ الزعامة، ولا يمكنك إلا أن تفسر أو تبرر هذا الحب، لكنك لا تستطيع فى الحقيقة أن تكون وصيًّا عليه. ثم إن شروط الشعب المصرى فى زعيمه ربما تتلخص طبقًا لسوابقه فى حاجة واحدة: أن يصدّقه. تسمع كلامًا من نوع أن مصر فى حاجة إلى زعيم مثل سعد زغلول زعيم ثورة 1919، لكن سعد زغلول لم يكن معجزة قَطّ، بل كان رجلا تجاوز الستين من عمره يوم صار زعيم مصر، فضلًا عن أنه تَوَقَّف عن لعب القمار قبل شهور من قيام الثورة. الرجل كتب فى الجزء الثامن من مذكراته التى صدرت عن الهيئة العامة للكتاب: «وإنى أوصى كل من يعيش بعدى ممن لهم شأن فى شأنى أنى إذا متّ من غير أن أترك اللعب أن لا يحتفلوا بجنازتى ولا يجلسوا لقبول تعزية ولا يدفنونى بين أهلى وأقاربى وأصهارى». ويقول: «كذلك يتمثل بخاطرى من وقت إلى وقت ما نزل بى من الخسائر فى القمار من يوم ما تعلمته لغاية الآن، وهى لا تقل عن ثلاثين ألف جنيه، فتؤلمنى هذه الذكرى إيلامًا شديدًا ويؤلمنى ما لقيت فى هذا السبيل من كدر العيشة المنزلية وما ترتب على سلوكه من إيلام قرينتى وإيذاء شهرتى (سمعتى) وسقوط منزلتى خصوصا أمام نفسى». ويضيف فى موقع آخر من المذكرات: «والله لقد أصبحت أستحيى من نفسى وأذوب خجلًا من أمرى ولا يفتأ ضميرى يوبّخنى كلما خلوت وحدى. ويل لى من الذين يطالعون من بعدى هذه المذكرات ومن حكمهم على تمكُّن الفساد من نفسى ورسوخ أصوله فى قلبى»... ويصل الأمر بسعد زغلول قبل ستة أشهُر من قيادته الثورة المصرية إلى أن يكتب: «إن لم أرتدع بعد هذا فمن اللازم أن أستعدّ للانتحار لأنه هو آخر ملجأ يلجأ إليه مَن تولى الضعف نفسهم وتمكن». ورغم هذا كله تاب سعد ووضعه أفراد الشعب المصرى فوق رءوسهم وأكتافهم ورفعوه إلى السماء ووضعوه على كرسى زعامة الأمة وانتخبوه رئىسا لوزرائهم... ولكن ما يعنيه درس سعد زغلول أن الجماهير هى التى تخلق الزعامة، ليست الزعامة هى التى تصنع الجماهير، وهو ما تحتاج إليه مصر فعلا، أن يدفع الشعب شخصًا إلى مقدمة الصف ليقود تغييرًا ويجسد أملًا. ومهما حاول أحد أن يتهكم أو يهاجم محبة الناس لشخص وضعوه زعيمًا لهم فسوف تفشل محاولته ويبقى حب الناس، ولتكن مهمتنا أن نمنع تحوُّل الزعيم المحبوب إلى الزعيم المقدس أو المحصَّن من النقد أو من المعارضة أو المنزَّه عن الخطأ، وهذه مهمة صعبة جدًّا شرط النجاح فيها أن لا نترفع أو نتعالى أو نتأفف من مشاعر شعبنا.