الفصل الرابع في فضائلها وخصائصها وهذه السُّورة العظيمة لها فضائلٌ وخصائصٌ عديدةٌ، ولم يثبت في فضائلِ شيءٍ من السُّور أكثر مما ثبت في فضلِها، وفضلِ «سورة الإخلاص»، ونذكرُ ما يحضرنا من فضائلِها: الفضيلة الأولى: أنَّها أعظمُ سورةٍ في القرآن وأفضل، ففي «صحيح البخاريِّ» عن أبي سعيدٍ بن المُعلَّى قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلِّمك سورةً هي أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرجَ من المسجدِ ؟». قال: فأخذ بيدي، فلمَّا أرد أن يخرج من المسجد قلتُ: يا رسول الله، إنَّك قلتَ: لأُعلمنَّك أعظم سورة في القرآن. قال: «نعم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، هي السبعُ المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيته». وروى الإمامُ أحمدُ من حديثِ عبدِ الله بنِ محمدِ بنِ عقيلٍ عن عبدِ الله بنِ جابرٍ قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر عن [ [سورة في القرآن». قلت: بلى، يا رسول الله. قال: «اقرأ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } حتَّى تختمها». وعبدُ الله بنُ جابرٍ هذا هو: البياضيُّ الأنصاريُّ، وقيل: هو العبديُّ. وروى النَّسائيُّ في «عمل اليوم والليلة»: حدَّثنا عبيدُ الله بنُ عبدِ الكريم ثنا عليُّ بنُ عبدِ الحميدِ ثنا سليمانُُ بنُ المغيرةِ عن ثابتٍ عن أنسٍ قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في منزِلةٍ، فنزلَ ونزلَ رجلٌ إلى جانبِه، فالتفتُّ إليه، فقال: «ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟» قال: فتلى عليه: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }. وروى أبو عليٍّ الصَّوَّاف في «فوائدِه»: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ هاشمٍ ثنا سعيدُ(4) بنُ زنبور ثنا سليمُ أبو مسلمٍ عن الحسنِ بنِ دينارٍ عن يزيدَ الرِّشْك قال: سمعتُ أبا زيدٍ - وكانت له صحبة - قال: كنتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ فِجَاجِ المدينة ليلاً، فسمعَ رجلاً يتهجَّدُ بأمِّ القرآن، فقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاستمعَ له حتَّى ختمَها، ثم قال: «ما في القرآن مثلُها». وخرَّجه الطَّبرانيُّ في «الأوسطِ» عن إبراهيمَ بنِ هاشمٍ، وقال: لا يُروى هذا الحديثُ عن أبي زيدٍ عمرو بنِ أخطب إلا بهذا الإسنادِ، تفرَّد به سليم بن مسلم. وهذه الأحاديث صريحةٌ في أنَّ الفاتحةَ أفضلُ سورِ القرآن. وقد اختلفَ في تفضيلِ بعضِ القرآن على بعضٍ، فأنكر قومٌ ذلك، قالوا: لأنَّه كلَّه كلامُ الله، وصفةٌ من صفاتِه, فلا يوصف بعضُه بالفضلِ على بعضٍ، وحُكي عن مالكٍ نحو هذا، وهو قولُ الأشعريِّ وابنُ الباقلانيِّ وجماعةٌ. وقيل: التفضيل يعودُ إلى ثوابِه وأجرِه، لا إلى ذاتِه، وهو قولُ طائفةٍ منهم ابنُ حِبَّان. وقيل: بل التفضيلُ يعود إلى [ [اعتبارين: أحدهما: اعتبار تكلُّم الله به. والثاني: اعتبار ما تضمَّنه من المعاني، فما تضمَّن التوحيد والتنزيه أعظم مما تضمَّن الإخبار عن الأُمم أو ذكر أبي لهب ونحو ذلك. وهذا قولُ إسحاقَ وكثيرٍ من العلماء والمتكلِّمين، وهو الصَّحيحُ الذي تدلُّ عليه النُّصوصُ الصَّحيحة. الفضيلةُ الثانية: أنَّه لم ينزل في القرآن، ولا في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ، مثلُها، فروى عبدُ الحميدِ بنُ جعفرٍ عن العلاء بنِ عبدِ الرحمن عن أبيِه عن أبي هريرةَ عن أُبيِّ بنِ كعبٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنزل اللهُ تبارك وتعالى في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ مثل أمّ القرآن، وهي السَّبعُ المثاني». أخرجه عبدُالله بنُ الإمامِ أحمدَ والنسائيُّ. وأخرجهُ التِّرمذيُّ من حديثِ عبدِ العزيز بنِ محمدٍ عن العلاءِ عن أبيِه عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأُبيِّ بنِ كعبٍ: «أتحبّ أن أعلِّمك سورةًً لم يُنزل في التَّوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في الفرقانِ مثلُها ؟» قلت: نعم. قال: «كيف تقرأ في الصَّلاة؟» فقرأتُ أمَّ القرآن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيدِه ما أُنزل في التَّوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزبورِ، ولا في الفرقانِ مثلُها، وإنَّها سبعٌ من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيتُه». وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأخرجه الإمامُ أحمد بنحوِه مختصرًا عن سليمانَ بنِ داود عن إسماعيلَ بنِ جعفرٍ عن العلاءِ به. وروى سعيدُ بنُ جبيرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ في قوله تعالى: { وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ } [الحجر:87[قال: هي فاتحةُ الكتابِ، استثناها الله تعالى لأمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فذخرها لهم ولم يُعْطها أحدٌ قبل أمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. رواهُ أبو عُبَيْدٍ. الفضيلةُ الثالثة: أنَّها من كنزٍ من تحتِ العَرش، رَوينا من طريق صالحٍ المُرِّيِّ عن ثابتٍ البُنانيِّ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطاني فيما مَنَّ بهِ عليَّ: إنِّي أَعطيتُك فاتحةَ الكتابِ، هي مِنْ كنوزِ عَرشِي، قسمْتُها بَيني وبَينكَ نصْفين». وعن عليِّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فاتحةُ الكتابِ، وآيةُ الكرسي، و { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } ]آل عمران:18[، و { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } ]آل عمران:26[؛ هذه الآيات مُعَلَّقات بالعرشِ ليسَ بينهنَّ وبين الله حِجَابٌ. أخرجه أبو عَمرو الدَّانيِّ بإسنادِه في «كتاب البيان» له. الفضيلةُ الرَّابعة: أنَّ هذه السُّورة مختصَّةٌ بمُناجاةِ الرَّبِّ تعالى، ولهذا اختصَّت الصَّلاةُ بها، فإنَّ المصلِّي يُناجي رَبَّه، وإنَّما يُناجي العبدُ رَبَّه بأفضلِ الكلامِ وأشرفِه، وهي مقسومةٌ بينَ العبدِ والرَّبِ نصفين، فنصفُها الأوَّل ثناءٌ للرَّبِّ عزَّ وجلَّ، والرَّبُّ تعالى يَسمَعُ مُنَاجَاة العَبدِ له، ويردُّ على المناجِي جوابَه ويسمعُ دعاءَ العبدِ بعدَ الثناءِ ويُجيْبُه إلى سؤالِه، وهذه الخصوصيّةُ ليسَتْ لغيرِها من السُّوَرِ، ولم يثبت مثلُ ذلك في شيءٍ من القرآن إلا في خاتمة «سُورة البقرة»، فإنَّها أيضًا من الكنز الذي تحت العَرش، ويُجابُ الدُّعاءُ بها كدُّعاءِ الفاتحة، غيرَ أنَّ الفاتحةَ تمتازُ عليها مِن وجهين: أحدُهما: الثناءُ أوَّلها وتلك لا ثناءَ فيها، وإنَّما فيها أخبارٌ عن الإيمانِ والفاتحة تتضمَّنُه. والثاني: أنَّ دُعاءَ الفاتحة أفضل، وهو: هداية الصراط المستقيم الذي لا نجاة بدُونِهِ، وتلك فيها الدُّعاءُ بما هُوَ مِن لواحِقِ ذلك وتتماتِه، ولا يُمكن حُصُولُهُ بدُونِ هِدَايةِ الصِّراطِ المستقيم. الفضيلةُ الخامسةُ: أنَّها متضمِّنة لمقاصِدِ الكتبِ المنزَّلةِ مِن السَّماءِِ كلِّها، فذكرَ ابنُ أبي حاتمٍ بإسناده عن الحَسنِ قال: أنزل الله سُبحانه أربعمائة كتاب وأربعة كتب، جَمَعَهَا في أربعةِ كتبٍ: التَّوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن، وجمع الأربعة في القرآن، وجَمع القرآن في المفصَّل، وجَمع المفصَّل في الفاتحةِ وجمع عِلم الفاتحةِ في: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ٍٍ } . وروى أبو عُبيدٍ في «كتابِه» بإسنادِه: عن الحسنِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قرأَ فاتحةَ الكتابِ فكأنَّما قرَأَ التَّوراةَ والإنجيلَ والزَّبورَ والفرقان». ويَشهَدُ لهذا تسميتُها: أمَّ الكتاب، وأمُّ الشيء: أصْلُهُ ومجتمعُه. وبيان اشتمال هذه السُّورة على جميع مقاصدِ الكتب المنزَّلة على وَجه الاختصار: أنَّ الله سبحانه وتعالى إنَّما أرسَل الرُّسَلَ وأنزلَ الكتبَ لدُعائِه الخلق إلى مَعرفتِه وتوحيدِه، وعبادتِه ومَحبتِه والقُربِ منهُ والإنابةِ إليه؛ هذا هو مقصُود الرِّسالة ولبُّها وقُطبُ رحاها الذي تدور عليه، وما ورَاءَ ذلك فإنَّها مُكملاتٌ ومُتمماتٌ ولواحقٌ؛ فكلُّ أحدٍ مفْتقِرٌ إلى معرفة ذلك عِلْمًا، والإتيانِ بهِ عملاً، فلا سَعَادةَ للعَبدِ ولا فلاحَ ولا نجاةَ بدون هذين المقصَدين. وسورةُ الفاتحةِ مُشتملةٌ على مَقاصِد ذلك، لأنَّها تضمَّنت التَّعريف بالرَّبِّ سبحانه بثلاثة أسماءٍ ترجعُ سائرُ الأسماءِ إليها، وهي: (اللهُ) وَ(الرَّبُّ) و(الرَّحمنُ)، وبُنيَتِ السُّورةُ على الإِلهيَّة والرُّبوبيَّة والرَّحمة؛ ف { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } مَبْنيٌّ على الإِلهيَّة، و { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مَبْنيٌّ على الرُّبوبيَّة، وطلبُ الهداية إلى صراطِه المستقيمِ مَبْنيٌّ على الرَّحمةِ، والحمدُ يتضمَّنُ الأمُورَ الثلاثة فهو تعالى محمودٌ على إلهيَّتِه ورُبوبيَّتِه ورَحمتِه. والثَّناءُ والمجدُ كمالان لحمده، وتضمَّنت السُّورةُ: توحيدَ الإِلهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ بقولهِ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، ولما كانَ كلُّ أحدٍ مُحتاجًا إلى طلبِ الهِدايةِ إلى الصراطِ المستقيمِ وسُلوكِه عِلْمًا ومعرفةً، ثم عَملاً وتلبُسًا = احتاجَ العبدُ إلى سُؤالِ ذلك وطَلبِه ممن هو بيدِه، وكان هذا الدُّعاءُ أعظمَ ما يَفتقِرُ إليهِ العبدُ ويَضطرُّ إليه في كلِّ طرفةِ عَيْنٍ، فإنَّ النَّاسَ ثلاثةُ أقسامٍ: قسمٌ عَرَفُوا الحقَّ وحادُوا عنه: المغضوبُ عليهم. وقسمٌ جَهِلُوهُ وهم: الضَّالون. وقسمٌ عَرَفُوهُ وعَمِلُوا به وهم: المنعَم عليهم. وكان العَبدُ لا يملك لنفسِه نفعًا ولا ضرًّا احتاجَ إلى سؤالِ الهِدايةِ إلى صراطِ المنعَمِ عليهم، والتخلُّص من طريق أهل الغَضَبِ والضَّلالِ ممن يَمْلِكُ ذلك ويقدرُ عليه. وتضمَّنت السُّورةُ أيضًا: إثباتَ النُّبُوَةِ والمعادِ، أمَّا المعادُ: فمن ذِكْرِ يومِ الدِّين، وهو يومُ الجزَاءِ بالأعمال، وأمَّا النبُّوَّةُ: فمِن ذِكْرِ تقسيم الخلق إلى ثلاثةِ أقسامٍ، وإنَّما انقسمُوا هذه القِسْمَة بحسبِ النَُّبوَّاتِ ومَعرفتِهم بها ومُتابعتهم لها. فهذا قولٌ مختصرٌ يُبيِّنُ تضمَّن سُورةَ الفاتحةِ لجميعِ أصُولِ مقاصدِ الرِّسالةِ، والكتبِ المنزَّلة مِنَ السَّماءِ. الفضيلةُ السَّادِسة: أنَّ سُورةَ الفاتحةِ شفاءٌ من كلِّ داءٍ، فهي شفاءٌ مِن الأمراضِ القلبيَّةِ، وشِفاءٌ من الأسقامِ البدَنيَّة؛ وقد تقدمَ عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «فاتحةُ الكتابِ شفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّام». والسِّرُّ في ذلك: أنَّ القرآنَ كلَّه شفاءٌ عامٌ، فهو شِفاءٌ لأدْوَاءِ القلوبِ من الجهلِ والشكِّ والرَّيبِ وغيرِ ذلك، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } [يونس:57[. وهو أيضاً شفاءٌ لأدْوَاءِ الأجسامِ، وقد وَصَفَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنَّه شفاءٌ مُطلقٌ في غير موضعٍ، فقال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [فصلت:44[، وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ]الإسراء: 82[، و (مِنْ) هُنا لبيانِ الجنسِ، لا للتبعيضِ. وفي «سُنن ابنِ ماجه» من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيرُ الدَّواءِ القرآن». فالقرآنُ كلُّه شفاءٌ، والفاتحةُ أعظمُ سُورةٍ فيه، فلها من خصوصيَّة الشِّفاءِ ما ليس لغيرِها، ولم يَزْل العارفون يتَداوَون بها من أسقامِهم، ويجدون تأثيرَها في البُرْءِ والشِّفَاءِ عاجلاً؛ ولكن ها هُنا نُكتةٌ ينبغي التفطُّنُ لها، وهي: أنَّ الرُّقا والتَّعاوِيذ بمنزلةِ السِّلاح، والسِّلاحُ يَحتاجُ تأثيرُهُ إلى قوّةِ الضَّاربِ به، وكون المحلّ قابلاً للتأثير، فالسِّلاَحُ بضارِبِه لا بحدِّهِ، فمتى كان السِّلاحُ سِلاحًا تامًا في نفسِه لا آفةَ فيه، والسَّاعِدُ الضَّارِبُ به قويٌّ، والمضرُوبُ به قابلٌ للقطعِ = أثَّر القطع لا مَحالة، ومتى تخلَّفَ شيءٌ من هذه الثَّلاثةِ = تخلَّف تأثيرُه. وكذلكَ الرُّقا والتَعاويذُ تَستدعي قوةَ وهمَّةَ الفاعلِ وتأثيرَه وقبولَ المحلِّ للتأثير، فمتى تخلَّف الشِّفاءُ بهذه الرُّقا الشَّرعيَّة كان بخلل في واحدٍ من هذين أو فيهما، ومتى وُجِدَا على وَجههما حَصَلَ التأثيرُ، فإذا أخذ القلبُ الرُّقا بقبولٍ تامٍ وكان للرَّاقي همَّةٌ مُؤَثِّرةٌ، ونفسٌ فَعّالةٌ، وقُوةٌ صَادقةٌ، وعَزيمةٌ تامَّةٌ، وإيمانٌ كاملٌ، وقلبٌ حاضرٌ، وبَصيرةٌ نافذةٌ = أثَّر في إزالةِ الدَّاءِ. ويتعلَّقُ بهذا مَسألةُ الرُّقا بالقرآن، وهو جائزٌ، والأحاديث [ ] ، وأمَّا حديث: «الرُّقا والتمائم شِركٌ» ففيه جَوابَانِ: أحدُهما: نسخُه، وإنَّما كان ذلك في أوَّل الأمر، لأنَّ الرُّقا مَظنَّة الشِّرك، فعُلِّق الحُكم بالمظنَّة، ثم عُلِّق بالحقيقة، لا سيَّما وكان في أوَّلِ الأمر القصدُ حَسم مَادة الشِّرك بالكليَّة، كما نُهي عن الشُّربِ في الظُّروفِ لأنَّها مَظنَّةُ السُّكْرِ، ثم رُخِّص فيها. والثاني: أن يُحْمَل ذلك على ما هو شِركٌ في نفسِه، وهو أظهر، وقد كره أحمدُ تعليقَ التَّمائِم قبلَ نزولِ البَلاءِ دون ما بعدَه، والله أعلم. الفضيلةُ السابعة: أنَّها حِرزٌ من شيَاطينِ الجِنِّ والإنسِ، وأنَّها تَعْدِلُ ثُلثَ القُرآن. خرَّج أبو الشَّيخ بإسنادِهِ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا وَضَعَ العبدُ جَنْبَهُ على فراشِهِ، فقال: بسم الله، وقرأ فاتحة الكتابِ = أمِنَ مِنْ شرِّ الجِنِّ والإنسِ، ومِنْ كُلِّ شيءٍ، وهي تعدِلُ ثُلُثَ القرآن». وفي «معجم الطَّبرانيِّ الأوسَطِ» بسَندِه عن ابنِ عبَّاسٍ يَرفعُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن قرأ أمَّ القرآن و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، فكأنَّما قرأ ثُلُثَ القرآن». تفرّدَ به الواسِطيُ. ورَوى عبدُ بنُ حُميدٍ في «مسنده» بسَندِه عن ابنِ عبَّاسٍ مَرفوعًا قال: «فاتحةُ الكتابِ تعدل بثلثي القرآن». الفضيلةُ الثامنة: أنَّ قراءةَ الفاتحةِ يَحصُلُ بها كمالُ الصَّلاةِ وقبولُها، وبدونِها تكون الصَّلاةُ خِِدَاجًا ناقصةً غيرَ تمام، بل لا تكون الصَّلاةُ مجزيةً مَقبولةً بدُونِ تِلاوَتِها، فإذا تُليت في الصَّلاةِ صارت الصَّلاةُ تامةً مجزيةً، وقد ورَد أنَّ الملائكةَ يُصَلُّوُنَ بها كما يُصَلِّي بها أهلُ الأرض.