استخراج اسماء المشمولين بالرعاية الاجتماعية الوجبة الاخيرة 2024 بالعراق عموم المحافظات    تمويل السيارات للمتقاعدين دون كفيل.. اليسر    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    سفير تركيا بالقاهرة: مصر صاحبة تاريخ وحضارة وندعم موقفها في غزة    نيفين مسعد: دعم إيران للمقاومة ثابت.. وإسرائيل منشغلة بإنقاذ رأس نتنياهو من المحكمة    رئيس إنبي: من الصعب الكشف أي بنود تخص صفقة انتقال زياد كمال للزمالك    «هساعد ولو بحاجه بسيطة».. آخر حوار للطفلة جنى مع والدها قبل غرقها في النيل    رابط نتائج السادس الابتدائى 2024 دور أول العراق    اليوم.. ختام مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بحضور إلهام شاهين وفتحي عبد الوهاب    أترك مصيري لحكم القضاء.. أول تعليق من عباس أبو الحسن على اصطدام سيارته بسيدتين    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    بيكلموني لرامي جمال تقترب من 9 ملايين مشاهدة (فيديو)    تحرك برلماني بشأن حادث معدية أبو غالب: لن نصمت على الأخطاء    دراسة: 10 دقائق يوميا من التمارين تُحسن الذاكرة وتزيد نسبة الذكاء    ضميري يحتم عليّ الاعتناء بهما.. أول تعليق من عباس أبو الحسن بعد حادث دهسه سيدتين    «أعسل من العسل».. ويزو برفقة محمد إمام من كواليس فيلم «اللعب مع العيال»    نائب محافظ بنى سويف: تعزيز مشروعات الدواجن لتوفيرها للمستهلكين بأسعار مناسبة    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    حلمي طولان: حسين لبيب عليه أن يتولى الإشراف بمفرده على الكرة في الزمالك.. والفريق في حاجة لصفقات قوية    زيادة يومية والحسابة بتحسب، أسعار اللحوم البتلو تقفز 17 جنيهًا قبل 25 يومًا من العيد    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    النائب عاطف المغاوري يدافع عن تعديلات قانون فصل الموظف المتعاطي: معالجة لا تدمير    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    أهالي سنتريس يحتشدون لتشييع جثامين 5 من ضحايا معدية أبو غالب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    روسيا: إسقاط طائرة مسيرة أوكرانية فوق بيلجورود    السفير محمد حجازي: «نتنياهو» أحرج بايدن وأمريكا تعرف هدفه من اقتحام رفح الفلسطينية    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    ملف يلا كورة.. إصابة حمدي بالصليبي.. اجتماع الخطيب وجمال علام.. وغياب مرموش    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    «معجب به جدًا».. جوميز يُعلن رغبته في تعاقد الزمالك مع نجم بيراميدز    دعاء في جوف الليل: اللهم ألبسنا ثوب الطهر والعافية والقناعة والسرور    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    قبل اجتماع البنك المركزي.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 22 مايو 2024    شارك صحافة من وإلى المواطن    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    مواصفات سيارة BMW X1.. تجمع بين التقنية الحديثة والفخامة    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    أخبار × 24 ساعة.. ارتفاع صادرات مصر السلعية 10% لتسجل 12.9 مليار دولار    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام
نشر في الجمعة يوم 27 - 01 - 2013

أَهَمُّ مَا يُذْكَرُ فِي الْبَاب اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام ، وَعُمُومهمَا ، وَخُصُوصهمَا ، وَأَنَّ الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص أَمْ لَا ؟ وَأَنَّ الْأَعْمَال مِنْ الْإِيمَان أَمْ لَا ؟ وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْل فِي كُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَنَا أَقْتَصِرُ عَلَى نَقْلِ أَطْرَافٍ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ يَحْصُل مِنْهَا مَقْصُود مَا ذَكَرْته مَعَ زِيَادَات كَثِيرَة .
قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيّ الْفَقِيه الْأَدِيب الشَّافِعِيّ الْمُحَقِّق - رَحِمَهُ اللَّه - فِي كِتَابه مَعَالِم السُّنَن : مَا أَكْثَرَ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة .
فَأَمَّا الزُّهْرِيّ فَقَالَ : الْإِسْلَام الْكَلِمَة ، وَالْإِيمَان الْعَمَل ، وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ يَعْنِي قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى : { قَالَتْ الْأَعْرَاب آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُل الْإِيمَانُ فِي قُلُوبكُمْ } وَذَهَبَ غَيْره إِلَى أَنَّ الْإِسْلَام وَالْإِيمَان شَيْء وَاحِد . وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْر بَيْت مِنْ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَاب رَجُلَانِ مِنْ كُبَرَاء أَهْل الْعِلْم ، وَصَارَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى قَوْل مِنْ هَذَيْنِ . وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّم ، وَصَنَّفَ عَلَيْهِ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدُ أَوْرَاقِهِ الْمِئَيْنِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَالصَّحِيح مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّد الْكَلَام فِي هَذَا ، وَلَا يُطْلَق ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِم قَدْ يَكُون مُؤْمِنًا فِي بَعْض الْأَحْوَال ، وَلَا يَكُون مُؤْمِنًا فِي بَعْضهَا . وَالْمُؤْمِن مُسْلِم فِي جَمِيع الْأَحْوَال ؛ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَإِذَا حَمَلْت الْأَمْر عَلَى هَذَا اِسْتَقَامَ لَك تَأْوِيل الْآيَات ، وَاعْتَدَلَ الْقَوْل فِيهَا ، وَلَمْ يَخْتَلِف شَيْء مِنْهَا .
وَأَصْل الْإِيمَان : التَّصْدِيق ، وَأَصْل الْإِسْلَام : الِاسْتِسْلَام وَالِانْقِيَاد ؛ فَقَدْ يَكُون الْمَرْء مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِر ، غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الْبَاطِن ، وَقَدْ يَكُون صَادِقًا فِي الْبَاطِن غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِر . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا فِي قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْإِيمَان بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً " فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَان الشَّرْعِيّ اِسْم لِمَعْنًى ذِي شُعَب وَأَجْزَاء لَهُ أَدْنَى وَأَعْلَى ، وَالِاسْم يَتَعَلَّق بِبَعْضِهَا ، كَمَا يَتَعَلَّق بِكُلِّهَا ، وَالْحَقِيقَة تَقْتَضِي جَمِيع شُعَبه ، وَتَسْتَوْفِي جُمْلَة أَجْزَائِهِ ؛ كَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّة لَهَا شُعَب وَأَجْزَاء ، وَالِاسْم يَتَعَلَّق بِبَعْضِهَا ، وَالْحَقِيقَة تَقْتَضِي جَمِيع أَجْزَائِهَا وَتَسْتَوْفِيهَا . وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان " . وَفِيهِ : إِثْبَات التَّفَاضُل فِي الْإِيمَان ، وَتَبَايُنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَاتِهِ . هَذَا آخِر كَلَام الْخَطَّابِيّ . وَقَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بْن مَسْعُود الْبَغَوِيُّ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - فِي حَدِيث سُؤَال جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَجَوَابه ، قَالَ : جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ اِسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَعْمَال ، وَجَعَلَ الْإِيمَان اِسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَاد ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَالتَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَجِمَاعهَا الدِّين ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " وَالتَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ يَتَنَاوَلُهُمَا اِسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ جَمِيعًا ؛ يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله - سُبْحَانه وَتَعَالَى - { إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام } { وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَام دِينًا } وَ { مَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَنَّ الدِّين الَّذِي رَضِيَهُ وَيَقْبَلهُ مِنْ عِبَاده هُوَ الْإِسْلَام ، وَلَا يَكُون الدِّين فِي مَحَلّ الْقَبُول وَالرِّضَا إِلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيق إِلَى الْعَمَل . هَذَا كَلَام الْبَغَوِيِّ .
وَقَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد بْن الْفَضْل التَّمِيمِيّ الْأَصْبَهَانِي الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - فِي كِتَابه التَّحْرِير فِي شَرْح صَحِيح مُسْلِم : الْإِيمَان فِي اللُّغَة هُوَ التَّصْدِيق فَإِنْ عَنَى بِهِ ذَلِكَ فَلَا يَزِيد وَلَا يَنْقُص ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيق لَيْسَ شَيْئًا يَتَجَزَّأ حَتَّى يُتَصَوَّرَ كَمَالُهُ مَرَّة وَنَقْصُهُ أُخْرَى . وَالْإِيمَان فِي لِسَان الشَّرْع هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْعَمَل بِالْأَرْكَانِ . وَإِذَا فُسِّرَ بِهَذَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ . وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة ، قَالَ : فَالْخِلَاف فِي هَذَا عَلَى التَّحْقِيق إِنَّمَا هُوَ أَنَّ الْمُصَدِّق بِقَلْبِهِ إِذَا لَمْ يَجْمَعْ إِلَى تَصْدِيقِهِ الْعَمَلَ الْإِيمَان هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا مُطْلَقًا أَمْ لَا ؟ وَالْمُخْتَار عِنْدنَا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِهِ . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن " لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَل بِمُوجَبِ الْإِيمَان فَيَسْتَحِقَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ . هَذَا آخِر كَلَام صَاحِب التَّحْرِير .
وَقَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن خَلَف بْن بَطَّال الْمَالِكِيّ الْمَغْرِبِيّ فِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ : مَذْهَب جَمَاعَة أَهْل السُّنَّة مِنْ سَلَف الْأُمَّة وَخَلَفِهَا : أَنَّ الْإِيمَان قَوْل وَعَمَل يَزِيد وَيَنْقُص ، وَالْحُجَّة عَلَى زِيَادَته وَنُقْصَانه : مَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ الْآيَات ، يَعْنِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهمْ } ، وَقَوْله تَعَالَى : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } ، وَقَوْله تَعَالَى : { وَيَزِيد اللَّه الَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدًى } وَقَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زَادَهُمْ } وَقَوْله تَعَالَى : { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } وَقَوْله تَعَالَى : { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } وَقَوْله تَعَالَى : { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } وَقَوْله تَعَالَى : { وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } قَالَ اِبْن بَطَّال : فَإِيمَان مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الزِّيَادَةُ نَاقِصٌ ، قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : الْإِيمَان فِي اللُّغَة التَّصْدِيق ، فَالْجَوَاب : أَنَّ التَّصْدِيق يَكْمُلُ بِالطَّاعَاتِ كُلِّهَا ، فَمَا اِزْدَادَ الْمُؤْمِن مِنْ أَعْمَال الْبِرّ كَانَ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ ، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَة يَزِيد الْإِيمَان وَبِنُقْصَانِهَا يَنْقُص ، فَمَتَى نَقَصَتْ أَعْمَال الْبِرّ نَقَصَ كَمَالُ الْإِيمَان ، وَمَتَى زَادَتْ زَادَ الْإِيمَان كَمَالًا . هَذَا تَوَسُّطُ الْقَوْلِ فِي الْإِيمَان . وَأَمَّا التَّصْدِيق بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَا يَنْقُص وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّه - فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ الْقَوْل بِالنُّقْصَانِ ؛ إِذْ لَا يَجُوز نُقْصَان التَّصْدِيق ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَقَصَ صَارَ شَكًّا ، وَخَرَجَ عَنْ اِسْم الْإِيمَان .
وَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّمَا تَوَقَّفَ مَالِك عَنْ الْقَوْل بِنُقْصَانِ الْإِيمَان خَشْيَة أَنْ يُتَأَوَّل عَلَيْهِ مُوَافَقَةُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَهْل الْمَعَاصِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالذُّنُوبِ ، وَقَدْ قَالَ مَالِك بِنُقْصَانِ الْإِيمَان مِثْل قَوْل جَمَاعَة أَهْل السُّنَّة . قَالَ عَبْد الرَّزَّاق : سَمِعْت مَنْ أَدْرَكْت مِنْ شُيُوخنَا وَأَصْحَابنَا سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَمَالِك بْن أَنَس ، وَعُبَيْد اللَّه بْن عُمَر ، وَالْأَوْزَاعِيّ ، وَمَعْمَر بْن رَاشِد وَابْن جُرَيْجٍ ، وَسُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ ، يَقُولُونَ : الْإِيمَان قَوْل وَعَمَل يَزِيد وَيَنْقُص وَهَذَا قَوْلُ اِبْن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك . فَالْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقّ بِهِ الْعَبْدُ الْمَدْحَ وَالْوِلَايَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ إِتْيَانه بِهَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة : التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ ، وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ، وَالْعَمَل بِالْجَوَارِحِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَاف بَيْن الْجَمِيع : أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ وَعَمِلَ عَلَى غَيْر عِلْمٍ مِنْهُ وَمَعْرِفَةٍ بِرَبِّهِ ، لَا يَسْتَحِقّ اِسْم مُؤْمِن . وَلَوْ عَرَفَهُ ، وَعَمِلَ ، وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ ، وَكَذَبَ مَا عَرَفَ مِنْ التَّوْحِيد ، لَا يَسْتَحِقّ اِسْم مُؤْمِن ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِرُسُلِهِ - صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَلَمْ يَعْمَل بِالْفَرَائِضِ ، لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ وَإِنْ كَانَ فِي كَلَام الْعَرَب يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِالتَّصْدِيقِ فَذَلِكَ غَيْر مُسْتَحَقّ فِي كَلَام اللَّه تَعَالَى ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبهمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاته زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فَأَخْبَرَنَا سُبْحَانه وَتَعَالَى : أَنَّ الْمُؤْمِن مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته .
وَقَالَ اِبْن بَطَّال فِي بَاب مَنْ قَالَ الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق قِيلَ : التَّصْدِيق هُوَ أَوَّل مَنَازِل الْإِيمَان ، وَيُوجِب لِلْمُصَدِّقِ الدُّخُولَ فِيهِ ، وَلَا يُوجِب لَهُ اِسْتِكْمَالَ مَنَازِلِهِ ، وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا مُطْلَقًا . هَذَا مَذْهَب جَمَاعَة أَهْل السُّنَّة : أَنَّ الْإِيمَان قَوْل وَعَمَل .
قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَرْبَاب الْعِلْم وَالسُّنَّة الَّذِينَ كَانُوا مَصَابِيح الْهُدَى وَأَئِمَّة الدِّين مِنْ أَهْل الْحِجَاز وَالْعِرَاق وَالشَّام وَغَيْرهمْ .
قَالَ اِبْن بَطَّال : وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ الْبُخَارِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - إِثْبَاته فِي كِتَاب الْإِيمَان وَعَلَيْهِ بَوَّبَ أَبْوَابه كُلّهَا . فَقَالَ : بَاب أُمُور الْإِيمَان ، وَبَاب الصَّلَاة مِنْ الْإِيمَان ، وَبَاب الزَّكَاة مِنْ الْإِيمَان ، وَبَاب الْجِهَاد مِنْ الْإِيمَان ، وَسَائِر أَبْوَابه ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّدّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْإِيمَان قَوْل بِلَا عَمَلٍ وَتَبْيِين غَلَطِهِمْ ، وَسُوءَ اِعْتِقَادِهِمْ وَمُخَالَفَتهمْ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَمَذَاهِب الْأَئِمَّة ثُمَّ قَالَ اِبْن بَطَّال فِي بَاب آخَر : قَالَ الْمُهَلَّبُ : الْإِسْلَام عَلَى الْحَقِيقَة هُوَ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عَقْد الْقَلْب الْمُصَدِّق لِإِقْرَارِ اللِّسَان الَّذِي لَا يَنْفَع عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ .
وَقَالَتْ الْكَرَّامِيَّة وَبَعْض الْمُرْجِئَة : الْإِيمَان هُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دُون عَقْد الْقَلْب ، وَمِنْ أَقْوَى مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِمْ إِجْمَاع الْأُمَّة عَلَى إِكْفَار الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ ، قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله ... إِلَى قَوْله تَعَالَى وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } هَذَا آخِر كَلَام اِبْن بَطَّال .
وَقَالَ الشَّيْخ الْإِمَام أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح - رَحِمَهُ اللَّه - : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَام : " أَنْ تَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اِسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلًا ، وَالْإِيمَان : أَنْ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته ، وَكُتُبه ، وَرُسُله ، وَالْيَوْم الْآخِر ، وَتُؤْمِن بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ : هَذَا بَيَان لِأَصْلِ الْإِيمَان ، وَهُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن ، وَبَيَان لِأَصْلِ الْإِسْلَام وَهُوَ الِاسْتِسْلَام وَالِانْقِيَاد الظَّاهِر ، وَحُكْم الْإِسْلَام فِي الظَّاهِر ثَبَتَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالزَّكَاة ، وَالْحَجّ ، وَالصَّوْم ، لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمِهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اِسْتِسْلَامه ، وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ اِنْقِيَادِهِ أَوْ اِخْتِلَالِهِ ، ثُمَّ إِنَّ اِسْم الْإِيمَان يَتَنَاوَل مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيث وَسَائِر الطَّاعَات لِأَنَّهَا ثَمَرَات لِلتَّصْدِيقِ الْبَاطِن الَّذِي هُوَ أَصْل الْإِيمَان ، وَمُقَوِّيَات وَمُتَمِّمَات وَحَافِظَات لَهُ ، وَلِهَذَا فَسَّرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَان فِي حَدِيث وَفْدِ عَبْد الْقَيْس بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَإِعْطَاء الْخُمُس مِنْ الْمَغْنَم . وَلِهَذَا لَا يَقَع اِسْم الْمُؤْمِن الْمُطْلَق عَلَى مَنْ اِرْتَكَبَ كَبِيرَةً ، أَوْ بَدَّلَ فَرِيضَة ، لِأَنَّ اِسْم الشَّيْء مُطْلَقًا يَقَع عَلَى الْكَامِل مِنْهُ ، وَلَا يُسْتَعْمَل فِي النَّاقِص ظَاهِرًا إِلَّا بِقَيْدٍ ؛ وَلِذَلِكَ جَازَ إِطْلَاق نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَسْرِق السَّارِق حِين يَسْرِق وَهُوَ مُؤْمِن " وَاسْم الْإِسْلَام يَتَنَاوَل أَيْضًا مَا هُوَ أَصْل الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن ، وَيَتَنَاوَل أَصْل الطَّاعَات ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلّه اِسْتِسْلَام . قَالَ : فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَقْنَا أَنَّ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ ، وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . قَالَ : وَهَذَا تَحْقِيق وَافِر بِالتَّوْفِيقِ بَيْن مُتَفَرِّقَات نُصُوص الْكِتَاب وَالسُّنَّة الْوَارِدَة فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ . وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِق لِجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَغَيْرهمْ . هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو بْن الصَّلَاح ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِب السَّلَف ، وَأَئِمَّة الْخَلَف ، فَهِيَ مُتَظَاهِرَة مُتَطَابِقَة عَلَى كَوْن الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص . وَهَذَا مَذْهَب السَّلَف وَالْمُحَدِّثِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ .
وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ ، وَقَالُوا : مَتَى قَبِلَ الزِّيَادَة كَانَ شَكًّا وَكُفْرًا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمِينَ : نَفْس التَّصْدِيق لَا يَزِيد وَلَا يَنْقُص . وَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِزِيَادَةِ ثَمَرَاته ، وَهِيَ الْأَعْمَال وَنُقْصَانهَا قَالُوا : وَفِي هَذَا تَوْفِيق بَيْن ظَوَاهِر النُّصُوص الَّتِي جَاءَتْ بِالزِّيَادَةِ وَأَقَاوِيل السَّلَف ، وَبَيْن أَصْلِ وَضْعِهِ فِي اللُّغَة وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا حَسَنًا فَالْأَظْهَرُ - وَاَللَّه أَعْلَمُ - أَنَّ نَفْس التَّصْدِيق يَزِيد بِكَثْرَةِ النَّظَر وَتَظَاهُرِ الْأَدِلَّة وَلِهَذَا يَكُون إِيمَان الصِّدِّيقِينَ أَقْوَى مِنْ إِيمَان غَيْرهمْ بِحَيْثُ لَا تَعْتَرِيهِمْ الشُّبَهُ ، وَلَا يَتَزَلْزَلُ إِيمَانُهُمْ بِعَارِضٍ ، بَلْ لَا تَزَالُ قُلُوبُهُمْ مُنْشَرِحَةً نَيِّرَةً وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْوَال .
وَأَمَّا غَيْرهمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَة وَمَنْ قَارَبَهُمْ وَنَحْوِهِمْ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ . وَلَا يَتَشَكَّك عَاقِل فِي أَنَّ نَفْس تَصْدِيق أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - لَا يُسَاوِيهِ تَصْدِيقُ آحَاد النَّاس ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه : قَالَ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّهمْ يَخَاف النِّفَاق عَلَى نَفْسه ، مَا مِنْهُمْ أَحَد يَقُول إِنَّهُ عَلَى إِيمَان جِبْرِيل وَمِيكَائِيل . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَأَمَّا إِطْلَاق اِسْم الْإِيمَان عَلَى الْأَعْمَال فَمُتَّفَق عَلَيْهِ عِنْد أَهْل الْحَقّ . وَدَلَائِلُهُ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَر وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُشْهَر . قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانكُمْ } أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد صَلَاتكُمْ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيث فَسَتَمُرُّ بِك فِي هَذَا الْكِتَاب مِنْهَا جُمَلٌ مُسْتَكْثَرَات وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَاتَّفَقَ أَهْل السُّنَّة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِن الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْل الْقِبْلَة وَلَا يُخَلَّد فِي النَّار لَا يَكُون إِلَّا مَنْ اِعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ اِعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنْ الشُّكُوك ، وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، فَإِنْ اِقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْقِبْلَة أَصْلًا إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنْ النُّطْق لِخَلَلٍ فِي لِسَانه أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّن مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُون مُؤْمِنًا . أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يُشْتَرَط مَعَهُمَا أَنْ يَقُول وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ الْكُفَّار الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اِخْتِصَاصَ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَب فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا بِأَنْ يَتَبَرَّأَ ، وَمِنْ أَصْحَابنَا أَصْحَاب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه مَنْ شَرَطَ أَنْ يَتَبَرَّأ مُطْلَقًا ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ : أَمَّا إِذَا اِقْتَصَرَ عَلَى قَوْله لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ، وَلَمْ يَقُلْ : مُحَمَّد رَسُول اللَّه : فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبنَا وَمَذَاهِب الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَكُون مُسْلِمًا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَكُون مُسْلِمًا وَيُطَالَب بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى ، فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا . وَيُحْتَجّ لِهَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ " وَهَذَا مَحْمُول عِنْد الْجَمَاهِير عَلَى قَوْل الشَّهَادَتَيْنِ ، وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا وَاَللَّه أَعْلَمُ .
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاة أَوْ الصَّوْم أَوْ غَيْرهمَا مِنْ أَرْكَان الْإِسْلَام وَهُوَ عَلَى خِلَاف مِلَّته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فَهَلْ يُجْعَل بِذَلِكَ مُسْلِمًا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا ، فَمَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا قَالَ : كُلّ مَا يَكْفُر الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا . أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَهَلْ يُجْعَلُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : الصَّحِيح مِنْهُمَا أَنَّهُ يَصِير مُسْلِمًا لِوُجُودِ الْإِقْرَار ، وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الْحَقّ وَلَا يَظْهَر لِلْآخَرِ وَجْه وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي شَرْح الْمُهَذَّبِ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَغَيْرهمْ فِي إِطْلَاق الْإِنْسَان قَوْله : ( أَنَا مُؤْمِن ) فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَقُول أَنَا مُؤْمِن مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بَلْ يَقُول : أَنَا مُؤْمِن إِنْ شَاءَ اللَّه . وَحَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَاز الْإِطْلَاق وَأَنَّهُ لَا يَقُول : ( إِنْ شَاءَ اللَّه ) . وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار ، وَقَوْل أَهْل التَّحْقِيق . وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْره إِلَى جَوَاز الْأَمْرَيْنِ . وَالْكُلّ صَحِيح بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَنْ أَطْلَقَ نَظَرَ إِلَى الْحَال وَأَحْكَامُ الْإِيمَانِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحَال ، وَمَنْ قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّه فَقَالُوا فِيهِ : هُوَ إِمَّا لِلتَّبَرُّكِ ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَة وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَلَا يَدْرِي أَيَثْبُتُ عَلَى الْإِيمَان أَمْ يُصْرَفُ عَنْهُ ، وَالْقَوْل بِالتَّخْيِيرِ حَسَنٌ صَحِيحٌ نَظَرًا إِلَى مَأْخَذ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَرَفْعًا لِحَقِيقَةِ الْخِلَاف وَأَمَّا الْكَافِر فَفِيهِ خِلَاف غَرِيب لِأَصْحَابِنَا ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَال : هُوَ كَافِر ، وَلَا يَقُول إِنْ شَاءَ اللَّه ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ فِي التَّقْيِيد كَالْمُسْلِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيُقَال عَلَى قَوْل التَّقْيِيد : هُوَ كَافِر إِنْ شَاءَ اللَّه نَظَرًا إِلَى الْخَاتِمَة وَأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ ، وَهَذَا الْقَوْل اِخْتَارَهُ بَعْض الْمُحَقِّقِينَ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ : أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْقِبْلَة بِذَنْبٍ وَلَا يَكْفُرُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَع ، وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مَا يُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَام ضَرُورَةً حُكِمَ بِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُون قَرِيب عَهْد بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ وَنَحْوه مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ فَيُعَرَّفُ ذَلِكَ ؛ فَإِنْ اِسْتَمَرَّ حُكِمَ بِكُفْرِهِ ، وَكَذَا حُكْم مَنْ اِسْتَحَلَّ الزِّنَا أَوْ الْخَمْرَ أَوْ الْقَتْلَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَات الَّتِي يُعْلَمُ تَحْرِيمُهَا ضَرُورَةً . فَهَذِهِ جُمَل مِنْ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَة بِالْإِيمَانِ قَدَّمْتهَا فِي صَدْر الْكِتَاب تَمْهِيدًا لِكَوْنِهَا مِمَّا يَكْثُر الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ وَلِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهَا وَتَرْدَادِهَا فِي الْأَحَادِيث ، فَقَدَّمْتهَا لَأُحِيلَ عَلَيْهَا إِذَا مَرَرْت بِمَا يُخَرَّجُ عَلَيْهَا وَاَللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . وَلَهُ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَبِهِ التَّوْفِيق وَالْعِصْمَة .(منقول من شرح النووى على مسلم باب الايمان)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.