بينما أسير فى سوق ساحة «الفنا» بمدينة مراكش، استوقفنى صوت غليظ ينادى على باسمي.. التفت له، فوجدته شيخًا عجوزًا يجلس تحت شمسية، ويمد يده لي! اقتربت نحوه دون أن أدرى من هو وصافحته، وجلست بجواره.. قال لى بمنتهى الثقة: كيف حالك يا مصطفي؟! سألته: من أين عرفت اسمي؟.. ابتسم وقال لي.. من مولانا عبدالرحمن!! وطلب منى إلقاء السلام عليه لأنه يحضر جلستنا!! بدأت أشعر بضربات قلبى تزداد وسيطرت على حالة من التوتر، ومسك الرجل بكفى وقال..إئذن لي.. ففتحت له كف يدى فأخبرنى باسمى واسم امى وتحدث معى عن الحب فى حياتى وعلاقتى السيئة مع الفلوس، عن طموحاتى وأحلامي.. قرأنى كأننى كتاب مفتوح امامه.. وجاءت الصدمة عندما قال لي.. انت مسحور!! سألته: ماذا تعني.. فقال : هناك شخص اجرى لك سحراً لأنه لا يريدك أن تبتعد عنه! طلبت منه أن يخبرنى باسمه أو اسمها فضحك وقال.. هى أنثى ولكن مولانا عبدالرحمن لا يخبر أحدًا بالأسماء حتى لا تنتقم.. سألني: هل تريد أن أحررك من السحر؟.. فأجبته قائلاً: أريد، فقال لي: اخرج كل ما فى جيبوك من اموال وضعها هنا، وخلع عمامته، بالفعل اخرجت كل ما فى جيوبى ووضعته فيها، ولكنه لم يكن مقتنعا بأن هذا ما أملك، ولكن بعد قسمى له بأننى لا امتلك حتى أجرة العودة للاوتيل.. اقتنع.. ووضع حفنة من البخور فى مبخرة امامه، وظل يتمتم بكلمات، لم افهمها وطلب منى إغلاق عيناي.. وسألني: ماذا اري؟ فقلت له: أرى باب شقتى بمصر.. فقال لي: افتحه وادخل.. ففعلت ما امرنى به، فسألني: أين تريد أن تأخذك رجليك بشقتك؟، فقلت له: إننى اسير الآن باتجاه غرفة نومي، فقال لي: استمر فى السير، فاخبرته باننى اتوقف امام سريري، فقال: هل تشعر بصداع:.. وقتها فقط بدأ الصداع يضرب رأسى بشكل مخيف، فوضع على فمى زجاجة ماء وقال لي: سم الله واشرب دون أن تفتح عينيك.. ففعلت.. قال لي: ماذا تريد أن تفعل؟.. فقلت له: أريد أن ارفع مرتبة سريرى وانظر اسفلها.. فقال لي: ارفعها بحذر... فقلت له: ارى ناراً مشتعلة.. فوضع امام فمى زجاجة الماء مرة اخرى وقال لي: أطفئها بماء من فمك.. ففعلت فانطفأت النار وظهر لى بعدها حجر ملفوف عليه ورقة.. فقلت له ما رأيت.. فطلب منى أن أمسكه بيدى وأنا اردد قوله تعالى «ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين » وبعد أن مسكت الحجر بيدي، طلب منى أن أفتح عينى فوجدت الجحر بالفعل بين يدي،.. الصداع سيطر على رأسى بشدة.. والخوف تملكنى أكثر، فهدأنى ومسح على رأسى وهو يقرأ آيات قرآنية من سورة البقرة، وقام بفك الورقة المربوطة بالحجر فوجدت اسمى مكتوبًا بها وسط مجموعة من الطلاسم والرموز، فوضعها فى المبخرة التى امامه والقى فوقها بالبخور وظل يردد كلمات بالمغربية الدارجة لم افهم منها سوى كلمة الله فقط.. لتحترق الورقة امام عيني.. واخرج من جيبه زجاجة زيت صغيرة.. طلب منى أن أدهن بها جسدى ثلاث ليال متتالية، انصرفت وقال لى وهو يودعني: انت رجل طيب اختارك مولانا عبدالرحمن من بين كل الموجودين فى السوق لينقذك!! عدت إلى الاوتيل سيراً بعد أن اكتشفت، اننى لم اعد املك حق أجرة التاكسي، كنت أشعر بخوف وغربة شديدة، وما أن وصلت إلى غرفتى حتى القيت بجسدى على السرير ولم استيقظ الا فى الثالثة صباحاً، كانت ملامحى تبدو مختلفة عندما قررت النظر فى المرآة، شعرت بأن علامات الخوف والفزع لاتزال تسيطر علي، كان الألم يضرب جسدى كأننى تعرضت لوصلة ضرب مبرحة، ولكن لم تغب عن عيناى صورة الشيخ الذى لم اعرف اسمه، بوجهه العجوز وفمه الشبه خال من الأسنان، وجدت تليفونى المحمول يحمل اكثر من ثلاثين ميسد كول، معظمها كان من صديق مغربي، تعرفت عليه بعد وصولى بيومين، اتصلت به، فأخبرنى أنه دخل فى وصلة قلق شديدة لعدم إجابتى على تليفوني، وقال لى إنه يسهر فى احد المطاعم وطلب منى الانضمام اليه، كنت اريد أن اهرب من التفكير فى ما حدث معي، فقررت الخروج رغم برودة الطقس، وبالفعل وصلت اليه، ويبدو أن ملامحى كانت تفضحني، سألني: ماذا بك، فقصصت له ما حدث معي، فظل يضحك بهستيريا، وعندما سألته إحدى الموجودات عن سر ضحكه، اجابها بالمغربية، اننى تعرضت لشبه عملية نصب بساحة الفنا، صديقى كان لا يؤمن بالسحر، ودخلنا فى جدل كبير، شعرت أنه يريد أن ينفى عن بلده المغرب تهمة أنها أشهر بلد عربى فى اعمال السحر والشعوذة، على عكس الفتيات الموجودات بالجلسة، كلهن أكدن لى أننى بالفعل كنت مسحورًا، وقصت إحداهن على قصة صديقة لها مسحورة، وأنها لا تعرف كيف تحل سحرها، فهناك شخص كان يحبها وتركته فدبر لها سحرًا أسود، لا يفك الا بواسطة الشخص الذى اقامه لها، قالت لى إن صديقتها يومياً تنتابها حالة صريخ وبكاء لساعة أو ساعتين فى اليوم، وأنها ذهبت لمعظم سحرة المغرب، وأخبروها بأن السحر المعمول لها فى فم جثة، مدفونة فى مكان مجهول لا يعلمه إلا الشخص الذى قام بعمل السحر لها،و أكدت لى أن صديقتها ستأتى غداً من مدينة أغادير وأنها ستعرفنى عليها، سألتها فى فضول: وكيف تتصرف صديقتك مع حالتها؟ قالت أصبحت شبه مدمنة للمسكنات والكحوليات لتتغلب على فترات الهستيريا التى تضربها! وبينما يصطحبنى صديقى المغربى بسيارته إلى الأوتيل، ظل يسخر مني، كيف لرجل مثقف ومتعلم أن يعطى رأسه لرجل جاهل ليعبث به ويزرع به الاوهام والخرافات وقال لى قبل أن اتركه « راسك على كتفاك وعم تقلب عليها!! » وهو مثل مغربى للسخرية من البحث عن الشيء المفقود الذى يكون امامك ولا تراه!!
دخلت غرفتى مع شروق الشمس، ولم يراودنى أى شعور بالنعاس، فقررت أن اطلب الصديقة التى حدثتنى عن مأساة صديقتها لأستفسر منها عما حدث معي، بعد أن منعتنى سخرية صديقى المغربى من طرح اسألتى بحرية، أجابتنى من أول رنة على هاتفها المحمول، وهى تقول: عارفة انه مش هيجيلك نوم النهارده، وقالت لي: ما حدث معك اليوم شيء عادى فانت فى بلاد المغرب.. فلا تستغرب! هذا بلد الحب والسحر والدين والفسوق، كل ما خلقه الله من خير وشر موجود على أرض هذا البلد، اخبرتها بأننى مقتنع اننى تعرضت لعملية نصب كما قال لى صديقى المغربي، فأجابتنى قائلة: إذن ادخل إلى سريرك ونام مادامت مقتنعًا بهذا، فقلت لها: ولكن الرجل قال لى اسمى واسم امى ومتاعبى فى الحياة، فضحكت وقالت: اذن لم تتعرض لعملية نصب، أنت كنت مسحورًا والرجل فعل معك الصواب، قلت لها هل تعرفين طريق شيخ آخر أذهب اليه ليطمئن قلبي، أخبرتنى أن صديقتها التى ستأتى اليوم من أغادير تعرف شيخًا عجوزًا تخطى عامه المائة والثلاثين يسكن فى أحد جبال مراكش، وأنها ستطلب منها أن نذهب سوياً معها إليه، ليقوم بالكشف على من جديد، وبالفعل فى عصر اليوم التالي، جاءتنى صديقتى المغربية بصحبة صديقتها وبعد أن قصصت عليها ما حدث معي، قالت لى إنها تؤمن بأن هناك سحراً كان مصنوعًا لي، ولكنها غير متأكدة من شفائى منه، لأن هناك سحرة فى المغرب يستطيعون أن يكشفوا السحر ولكنهم لا يستطيعون أن يفكوه، فقلت لها: هل سنذهب للشيخ صديقها؟ فأجابتنى بأنها سترسل له عن طريق صديق يسكن بجواره وتطلب منه مقابلة مستعجلة، فقلت لها: كم سيكلفنا الأمر من اموال؟ فقالت لى إن شيخها لا يتقاضى أى اجر فهو زاهد ويسكن الجبل منذ خمسين عاماً، ولا يأكل الا النباتات والعيش، ويصوم طوال العام، ورغم أن عمره قارب على المائة والثلاثين،الا انك ستشعر وانت فى حضرته أنك انت العجوز وهو الشاب.
اصطحبتنى فى اليوم التالى مع صديقتها للشيخ، صعدنا الجبل بالسيارة لمدة تجاوزت الساعة ونصفًا، عينى كانت قد ارتاحت للمناظر التى لم ترها من قبل، الجبال مزروعة بلون الخضار، الهواء انقى من أن يوصف، السماء رغم برودة الطقس صافية، ولكن مازالت الخواطر المتوترة تسيطر على تفكيري، لماذا أذهب لهذا الرجل؟ ولماذا من الأساس يشغل الموضوع تفكيري؟ كيف استسلمت للشيخ فى ساحة الفنا ليزرع بداخلى مرض الخوف من السحر؟ كيف لى أن أقتنع باننى مسحور، واحتاج لمن يفك قيودى ويحررنى مما لا أراه؟ وصلنا لمنزل صغير، شديد التواضع، يلعب امامه مجموعة من الاطفال، الذين فرحوا بمجرد رؤية الفتاة المغربية، كان يبدو عليها أنها طيبة وتحنو عليهم، حملت احد الأطفال، وقالت لي: إنه يوسف حفيد حفيد الشيخ، ويحمل نفس اسمه.. يوسف حدثها بالمغربية الدارجة «اتوحشتك بزاف » قبلته فى جبينه، ودخلنا إلى المنزل لتقابلنا سيدة عجوز، قالت لى صديقتي: إنها ابنته الصغري! زال اندهاشى بعد أن تذكرت أن الرجل تخطى عامه المائة والثلاثين! وبمجرد دخولنا عليه قال للفتاة بلهجة عربية مفهومة: ماذا يريد صديقك المصري؟!! ملامح الرجل كانت غاية فى الهدوء، وجهه ابيض يشع بالنور، لحيته بيضاء مهذبة، جلبابه مغربى داكن، وسرواله ابيض يظهر من جلسته على الارض، حوله كمية كبيرة من الكتب الكبيرة، ومفتوح امامه مصحف كبير للغاية لم أره من قبل، وفوقه عدسة مكبرة، ومسبحة طويلة يمسكها بيده ويضع فوق رأسه الطربوش المغربى الشهير، كانت رائحة غرفته طيبة للغاية، وجوها دافئاً أيضاً، قصصت عليه حكايتي، أثناء شربنا الأتاى المغربي، فقال لي: تعال لتجلس امامي، وطلب منى أن انظر فى عينيه وظل يقرأ القرآن بصوت خاشع وهادئ، قال لي: أغمض عينيك، افتحها، طلبها ثلاث مرات أثناء تلاوته للقرآن، وبعدها مسح بيده فوق جبينى وقال لي: انت مزيان، وهى تعنى أننى لست بمريض، قال لى لقد وسوس الجن المرافق للشيخ الموجود بالسوق بأسرارك له، فتلاعب بك، وخوفك وتوترك جعلك تصدق أنك مسحور، اذهب فانت لست تحت تأثير السحر بل أنت تعانى مما هو أخطر منه.. تعانى من الحب الذى يسكن قلبك لفتاة لن تكون من نصيبك، أردت أن أقاطعه، فقال لي: تعود ألا تصدق كل ما تراه عيناك، رأسك على كتفاك وعم بتقلب عليها