من بين عشرات الأفلام التي يتم انتاجها يوميا في العالم، يوجد القليل جدا من الأعمال التي تسعي للخروج عن المفاهيم السائدة والتقاليد الراسخة والقيود الاقتصادية المفروضة علي صناعة الأفلام. هذه النوعية من الأعمال غالبا ما تثير حيرة واستنكار الجمهور. وعادة ما تلقي استهجانا أكبر من قبل "النقاد" والصحفيين وغيرهم من ممثلي الرأي العام الذين يتحدثون باسم الجمهور، ويتحدثون إليه بصيغة المعلم والمرشد. لا يشبه "المسافر" أي فيلم آخر - علي الأقل فيما يخص السينما المصرية والعربية...ولا ينبغي مشاهدته كأي فيلم آخر. الذين اعتادوا علي أن الفيلم يجب أن يحكي حكاية وأن التمثيل والممثلين هم العنصر الأهم في الأفلام، وأن أي عمل غير قابل للفهم علي المستوي العقلي المباشر هو عمل رديء...علي كل هؤلاء أن يمتنعوا عن مشاهدة "المسافر" إلا إذا كانوا ينوون تحدي ذوقهم الفني واختباره.
إذا لم تكن قد تعلمت شيئا عن الفن التشكيلي، ولا تعلم شيئا عن السيريالية والرمزية والتعبيرية في فن التصوير، ولم تتوقف يوما أمام لوحة غامضة تأسر عينيك وروحك دون أن تدري لماذا، فلا تتعب نفسك بمشاهدة "المسافر" ووفر وقتك لمشاهدة "بين الأطلال" أو "سواق الأتوبيس".
إذا لم تكن قد قرأت شيئا «لكافكا» أو «ماركيز» أو «أدونيس» أو «كافافيس» أو «ريلكه» أو «أبي العلاء المعري» أو «ابن العربي» أو «حافظ الفارسي» فحاول أن تبقي كما أنت، واستمر في قراءة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الأبنودي.
لا أقول إن "المسافر" أفضل أو أسوأ من غيره، لكن أقول أنه لكي تستطيع أن تحكم علي عمل ما، عليك أن تقرأه أولا وحتي تقرأ عملا ما عليك أن تعرف اللغة التي كتب بها.
هذا الفيلم مصنوع من لغة الصورة، ولا يمكن الدخول إليه إلا عبر مفتاح الصور، كل الذين شاهدوه أشادوا بعنصر التصوير المتميز، لكن ليس مستوي التصوير هو ما أقصده بل مضمون هذه الصور، التي تتردد عبر الفيلم كله وتخلق في ذهن المشاهد أحاسيس ومعاني غامضة، قد يلام الفيلم علي بقاءها غامضة وأن التصوير جميل، لكن المضمون غامض.. لكن في هذا الغموض تحديدا تتجلي معان وقوة تأثير هذه الصور.
من القطار الذي يمر بجوار البحر في بداية الفيلم إلي القطار الذي يمر فوق النهر في نهايته... ومن السفينة العالية المرعبة التي يعيش فيها الارستقراط، وتشهد اغتصاب البطل للبطلة، ومعركته مع غريمه علي قلب المرأة التي ترفضه إلي المركب النيلي الذي يلجأ إليه في النهاية، حيث يعيش الفقراء البسطاء والأم الخصبة الحنون وافرة الأنوثة عامرة الصدر، من الخيول التي تندفع في البحر إلي الحمام الذي يرفرف فوق النهر، والنيران التي تشتعل في نهاية كل جزء، قبل أن يحل سلام وطمأنينة المياه العذبة في النهاية.
من بيت الدعارة وبطن السفينة التي ترمز للرحم الذي يصنع الأطفال، إلي المقابر والبئر العميقة في قاع البحر، التي ترمز للرحم الذي يبتلع الرجال، ومن صورة الطاووس الذكر المرعوب من المياه، إلي صور الحمام المرفرف والعاشق لمياه النهر... كل ذلك عبر سلسلة لا تتوقف من الحرائق التي تدمر كل شيء، لكنها أيضا تطهر كل شيء، وتمهد الأرض للميلاد الجديد.
يحتاج فك شفرات "المسافر" إلي مقالات أخري كما يحتاج إلي مشاهدات عدة... وقبل ذلك إلي عقل مستعد للانفتاح علي المجهول.. «الغامض والغريب»، هذا فيلم ينتمي إلي فن التصوير والموسيقي أكثر مما ينتمي لفن المسرح أو الحكاية... عليك أن تستقبله بحواسك ومشاعرك، وأن تضع تفكير وحديث المتكلمين باسم الرأي العام في البيت حتي تعود آخر الليل مشبع الحواس ومثقلاً بالصور... ساعتها يمكن أن تكتشف الفيلم ونفسك من جديد.