لحظة وقف فيها الجميع، هذا يشيد وهذا يصفق، هذا يبدي إعجابه بالإصرار وآخر يؤكد أن تلك الفتاة المصرية هي امتداد لجدتها "نفرتيتي" أو ك"كيلوباترا" التي استطاعت وحدها حكم البلاد. كان الحدث يستحق، فتاة تسجل 122 هدفًا في 22 مباراة فقط يعني إنه رقم قياسي جاء على يد مصرية في بلاد النور، فرنسا، لكن لا أحد من هؤلاء سأل كيف كانت الرحلة، من هي تلك اللاعبة، كم ليلة بكت فيها أمام سهام الذين اتهموها بالعجز وأحبطوا أحلامها، من قالوا لها "مكانك المطبخ"، من قالوا لها نهايتك "الزواج"، نعرف جيدًا لحظات المجد لأي بطل لكننا لا نعرف شيء عن ليالي الإحباط وهي كثيرة ومميتة.
منذ اللحظة الأولى كُتب على الطفلة رحاب جمعة أن تُعلن هويتها دون حديث، أصولها الصعيدية تظهر على ملامحها وشمس الصعيد تتسلل إلي جينات الأسرة فتعطيها الصلابة والقوة، ربما هذا ما مكنها من العيش في أسرة مكونة من أب وأم و5 أشقاء، الانتقال إلى القاهرة لم يكن سهلًا لكن حدث. يومًا دراسيًا عادي، حصص محببة وأخرى يهرب منها الجميع، اللعب هو ما يدور في عقلية الأطفال الصغار الذين شاهدوا رجل رياضي يأتي لاختيار أطفال لتكوين فريق جديد لنادي ناصر الرياضي، الفتاة الصغيرة رحاب جمعة تسمع اسمه بالكاد، إنه "كابتن رفاعي عاطف" أحد مدربي كرة اليد، حاولت أن يضمها فرفض بسبب قصر قامتها فصممت وأمام إصرارها وافق، يمكننا القول إنه من هنا بدأت الأسطورة، الرفض أول طريق النجاح. على عكس المتوقع لم يكن هناك اعتراض من الأسرة، والدتها الداعم الأول والمؤمن الأول بابنتها اصطحبتها للتدريب سرًا دون معرفة والدها خوفًا من رفض فعله.
صحيح لم تدم تلك التجربة طويلًا، سرعان ما تم تجميد النشاط بنادي ناصر الرياضي لكن الفتاة الصغيرة سقطت في غواية "كرة اليد"، ضرب الكرة بالقفز، المراوغة والإفلات، التحدي والإصرار، صار الإقلاع عن اللعبة امرًا صعبًا، لذلك فما إن غادرت نادي النصر حتى انتقلت إلى مركز شباب الساحل بالزاوية الحمراء.
لكن تلك الرحلة لم تكن بتلك السهولة، ففي الأحياء الشعبية بمجرد أن تبلغ الفتاة السابعة من عمرها تبدأ مرحلة التعليمات الأولى التي تؤهلها لتعليمات ما بعد البلوغ بعد ذلك، فما بالك بفتاة تلعب كرة اليد، تذهب إلى النادي وتعود منه، عشرات الأقاويل الساخرة منها، عشرات النصائح من الأهل والجيران بإجلاس الفتاة في البيت، الطفلة الصغيرة وعت أن ما تفعله غير مألوف للبيئة التي حولها، وأن طريقها قصير جدًا، تفكر في ذلك وهي تحاول اللحاق باتوبيس رقم "346" الذي يأخذها حتى مركز شباب الساحل، تصل قبل الموعد حتى لا يغضب المدرب، تجتهد لتنسى ما يقوله الناس، هل يمكن أن تكون اللعبة طوق نجاة. لا أحد يعرف كيف ترتب الحياة أوضاعها، كما دخلت كرة اليد على يد مدرب نادي ناصر كان موعدها مع قفزة لم تتوقعها لا هي ولا أسرتها حين ضمها الكابتن محمد عبد الله للنادي الأهلي لكنه سرعان ما غادر القلعة الحمراء وكان على الطفلة الصغيرة أن تجري اختبارات بناء على رغبة الكابتن خالد موافي الذي دعمها بكل ما يملك في مواجهة أولياء الأمور الرافضون لتلك الفتاة التي لا تحمل عضوية النادي الأهلي، لكن "موافي" الذي يعد أول الآباء الروحيين ل"رحاب" دعمها لتجاوز صعوبة البدايات. الأب الذي لا يعرف شيء فوجئ بابنته في القلعة الحمراء من خلال مجلة، لم يغضب، شجعها على اللعب، هنا اكتمل صمام الأمان للفتاة من خلال الوالد والوالدة، وخطوات النجاح التي رأتها امام عينيها فرمت كل شيء وركزت في كرة اليد. في الأهلى قضت رحاب جمعة 8 سنوات تعلمت خلالها كيف تكون لاعبة محترفة تحت إدارة صارمة وراءها ملايين المشجعين الذين لا يقبلون بالهزيمة، في الوقت نفسه التحقت بمنتخب الناشئات ببطولة إفريقيا ثم مع المنتخب الأول بالمغرب ومن خلال تألقها جاءها أول عرض احترافي بنادي " حواء سعيدة" الجزائري لتبدأ الفتاة رحلتها الاحترافية ومحطتها الأولى الجزائر.
السفر والاحتراف يمنح الإنسان ثقة لا حدود لها، فالفتاة خرجت للعالم وعليها الالتزام بالقواعد والتعامل مع أناس لا تعرفهم فقط من أجل كرة اليد، الأهل وافقوا على استكمال مسيرة ابنتهم ولم يكن الأمر سهلًا فقد كلفتها الخطوة الفصل من الجامعة، لكن الفتاة كان يدور في عقلها امرًا آخر وهو الاحتراف في أوروبا. بعد عامين في الجزائر بدأت مسيرة الاحتراف في أندية فرنسية كثيرة، منها نادي (اسياش انجولام) الفرنسي لمدة عامين وبعدها انتقلت الي نادي (بلان دو كوك الفرنسي مارسيليا ) وبعدها انتقلت لنادي سامبر الفرنسي لمدة عامين ثم إلى محطتها الحالية "سان جينيان" الفرنسي". وخلال ذلك المشوار صالت وجالت "رحاب" في الملاعب الفرنسية محققة رقم قياسي 122 هدف في 22 مباراة فقط، لتصبح ليس أصغر محترفة في كرة اليد في فرنسا فقط بل وصاحبة شعبية طاغية بين جماهير اللعبة.
وبالتزامن مع ذلك ترددت بعض الشائعات إنها ترفض المشاركة في المنتخب الوطني وهو ما نفته مطلقًا، لكن نتيجة تجاهل وزارة الرياضة والاتحاد المصري لكرة اليد للسيدات أعلنت "جمعة" أنها وافقت على التجنيس بعد يأسها من اللعب باسم بلادها مطالبة بتغيير وجهة نظر المجتمع المصري للسيدات في مجال الرياضة.
كان الجميع يحذروّنها من إنها لن تجد زوج بسبب لعبتها، لكن لأنها آمنت بنفسها وبمستقبلها لم يكن من الغريب أن تلتقي حب عمرها في بلاد النور " فرنسا"، وهو "إلياس" الشاب المسلم من أصول فرنسية ليعيشا الأثنان قصة حب جميلة كما تظهر صور "رحاب" على حسابتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.