يوم القيامة لم يحن موعده حتى هذه اللحظة. على الأقل ليس غداً أو الخميس المقبل أو مع مطالع الخريف. علامات الساعة التى يتحدثون عنها مضروبة تحت بير السلم. كل العرافين من شتى بقاع الأرض، يؤكدون مع بداية كل عام: الدنيا ستنتهى بتاريخ كذا. ثم يأتى تاريخ كذا، ولا يحدث شىء. لكننا نعود إلى تصديقهم كالبلهاء فى السنة التالية. العرافون هم دائماً من كهنة جميع الأديان بدون استثناء، اكتشفوا أن المهنة الجديدة أربح بمراحل. نهاية العالم إذن لم تأت بعد. مازال فى استطاعتنا أن نضرب عرض الحائط بالعادات والتقاليد البالية، وأن نقتنص بعض اللحظات الخاطفة من بين أنياب التنين. حقاً مجازر الإخوان أصبحت من الأخبار اليومية المعتادة، كنشرة الأحوال الجوية أو نتائج مباريات الدورى. لكن إمكانية الحصول على بعض اللحظات المعدودة، ما بين كارثتين، تظل ممكنة. حقاً الزبالة تملأ حياتنا، فضلاً عن انهيار العمارات، بالتواطؤ مع السادة المحافظين أو مجالس الأحياء، أو سرقة الأعضاء من أطفال الشوارع، بالإضافة إلى جرائم التحالف اللاوطنى لزعم الشرعية، صارت كلها من الأمور التى لا يتوقف عندها أحد طويلاً. إلا أن الفرصة ماتزال أمامنا سانحة لندافع عن تفاصيلنا الصغيرة. لن نتنازل عن حقنا فى أن نخطئ، وأن نتعلم من الخطأ إذا بدا لنا أن هذا هو الموقف الصحيح، أو نتمادى فى ارتكابه طالما هو يتعلق بمعاداة الألم البشرى أو العشق أو الإبداع. الأغبياء وحدهم يتمنون أن يكونوا ملائكة. لا يعرفون أن الملائكة ليس فى استطاعتها أن تختار. الملائكة مبرمجون كالروبوتات، ولا فضل لهم فيما هم فيه من الطهارة التى هى كالقطن الطبى المعقم. ما معنى الاتصاف بالكمال بلا حرية؟ وعلى المستوى الشخصى، فإن كل ما تعلمته، من أخطائى المتكررة فى الحب، هو أن أرتكب نفس الخطأ المرة تلو الأخرى بمزيد من الإتقان. وعلى الرغم من الذكريات المؤلمة لوصلات التعذيب الحيوانى المتوحش فى مختلف العهود، ربما استطعنا -بقليل من الإرادة- أن نحتفظ بآدميتنا. على الرغم من أننا عشنا العمر كله، تحت قوة القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه والرصاص الحى والخرطوش، فإننا نستطيع -بقليل من الإصرار- أن نظل نرفض. ليس فى مقدور أحد أن يحظر علينا أن نتسكع فى أزقة القاهرة الفاطمية. ليس فى مقدور أحد أن يحظر علينا الذهاب إلى السينما مع شخص نحبه، وأن نجلس فى الصف الأخير، لنشاهد فيلماً كوميدياً لا يثير الضحك. ثم نضحك من أنفسنا لأن الجيلاتى الذى أخذناه من محل فى وسط البلد كان له مذاق الورنيش، أو لأن الشحاذ الصفيق الذى عند مدخل دار الأوبرا يتسول بالإنجليزية: وأن باوند بليز! ستغنى من القلب، بصرف النظر عن حلاوة أو قبح أصواتنا، ونقرأ القصائد التى تحرك فينا الحاجة الغامضة إلى العناق. ليس فى مقدور أحد أن يرغمنا على ألا نفترش أوراق الصحف الساعة الرابعة بعد منتصف الليل فى حديقة المطار مع شخص ندمن وجوده بجانبنا، وأن نقضم ببطء سندويتشات الفول والطعمية التى أعدها، بينما هو يفكر فينا. سنظل نقع فى الحب، ونرتكب حماقاتنا الجميلة، ولا مانع من أن نعانى أيضاً. ثم تتلامس الأيدى أو الشفاه. بالطبع لم يعد فى استطاعتنا أن نعيد الحياة إلى أعزائنا الذين سقطوا فى الميادين، ولا أن نتجنب الحزن لأن الوطن يمر بإحدى أصعب الفترات فى تاريخه المديد. ربما لم يعد فى استطاعتنا إلا أن نظل نعشق الحياة، ونعيشها كما نريد بالعند فى أعداء الحضارة الإنسانية. والأهم: ألا ننسى شيئاً من كل هذا الذى جرى. هذا هو الأهم.