قال الدكتور محمد البرادعي ، نائب رئيس الجمهورية السابق، إنه لمن دواعي الشرف أن القي محاضرة هنا في دولة جنوب إفريقيا التي هي ملحمة من تاريخ أفريقيا الذي تشكل من الظلم، والكفاح، والنصر، والأحلام والتحديات. جاء ذلك خلال افتتاحية المحاضرة التي ألقاها في جامعة جنوب أفريقيا متحدثاً عن الثورات في شمال أفريقيا، والدروس المستفادة والتحديات المقبلة, وجاء نص المحاضرة كما يلي :_
لا تختلف الانتفاضات التي حدثت في شمال أفريقيا وغيرها من دول الربيع العربي عن غيرها من الانتفاضات التي حدثت في مواقع أخرى في التاريخ الحديث, فالأهداف دائما واحدة .. تسعى لكرامة الإنسان و الثورة ضد الطغيان والفقر، والظلم، والبحث عن الحرية والرخاء والعدالة.
ولكن كما نعلم من التاريخ، فإن طريق الحرية هو طريق طويل جدا تخترقه الفوضوية و عدم التخطيط ، و على الرغم من سهولة الاتحاد ضد شيء ما, إلا أن الصعوبة الحقيقية تكمن في كيفية الاندماج مع التغيير المطلوب, خاصة وان غالبية دول الربيع العربي عانت لعقود من غياب التعددية السياسية واختفاء دور المجتمع المدني، لذلك فأنني أريد اليوم أن أقترح بعض التدابير التي يمكن أن تسهل وتسرع عملية التغيير، وليس فقط في شمال إفريقيا ولكن في بقية أفريقيا أيضا، إن التحدي الماثل أمامنا هو كيفية الصعود السلمي، وخلق ثقافة جديدة تقوم على الحرية والكرامة، ولكن اسمحوا لي أن أبدأ بوصف هذا العالم الذي نعيش فيه .
نحن نعيش في عالم متناقض لأقصى درجة, بالفعل فأن التقدم العلمي والتكنولوجي تسبب في قفزة هائلة إلى الأمام ولكن في الوقت نفسه، لم تترجم أي من هذه الإنجازات إلى إجراءات ملموسة لدعم كرامة الإنسان والحفاظ على السلام والأمن, فرغم أن ثورة الاتصالات جعلتنا اقرب إلى بعض ظاهرياً, و يا السخرية, لقد تزايد العداء بيننا مع تزايد ذلك الشعور بالخوف من " الأخر" وهو انعكاس لتزايد مظاهر عدم المساواة، والاستقطاب وانعدام التضامن الإنساني. معدلات الفقر والجوع مستمرة على مستويات مروعة, فالصراعات وحروب الماضي دفع ضريبتها الأجيال التالية, وسط ارث من القمع الوحشي و الإمعان في سحق الكرامة الإنسانية و هي السمة المميزة لثلث دول العالم, وحتى الدول الغنية تعاني من التفاوت في توزيع الثروة, وهناك بعض الدول التي توصف بأنها " ديمقراطيات راسخة " ساعدوا وحرضوا على أعمال تعذيب وقتل وتنفيذ الهجمات الالكترونية، و كذلك التنصت على المكالمات الهاتفية وغيرها من انتهاكات للقيم الإنسانية والآداب بصورة منتظمة مع الإفلات من العقاب, وهناك على الناحية الأخرى أكثر من مليار نسمة يناضلون من أجل البقاء بأقل من 2 دولار في اليوم، وأكثر من مليار يعيشون في فقر مدقع على أقل من 1,25 دولار يوميا, نصف هؤلاء في أفريقيا , وهناك 900 مليون شخص لا يملكون ما يكفي من الطعام, الملايين يموتون سنويا بسبب نقص فرص الحصول على الرعاية الطبية, الملايين من اللاجئين يعيشون مشردين، هذه ليست مجرد أرقام و لكنها نتائج غياب الحكم الرشيد والقمع وانتهاكات حقوق الإنسان والتهميش والشعور العميق بالظلم والغضب، مثل هذا الخليط من الانتهاكات يشكل أرض خصبة للصراعات والحروب الأهلية، فضلا عن العنف والتطرف, إن بوكو حرام وحركة الشباب، جماعة أنصار الدين , وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ليست سوى بعض الأمثلة في قارتنا.
و من المؤسف أن المؤسسات الدولية بما في ذلك الأممالمتحدة هي مجرد منظمات عفا عليها الزمن، أنهم يعانون من العيوب الهيكلية و افتقار السلطة الحقيقية وقلة الموارد، ونتيجة لذلك فقد أصبحت خاضعة للاستقطاب من بعض الدول التي تشكل "شللية " و جبهات متحدة داخل هذه المنظمات ومن المفارقات فأن التهديدات العالمية الأكثر أهمية من صراعات السلطة هي تهديدات بلا حدود: الفقر والإرهاب، وتغير المناخ، وأسلحة الدمار الشامل، والأمراض المعدية، والهجمات الالكترونية والاتجار بالبشر والمخدرات,كل هذه الكوارث تحتاج إلى تعاون دولي و لا يمكن لبلد واحد التغلب عليها بمفرده. ففي بلدان الربيع العربي فشل الاتفاق على معايير مشتركة بين الجبهات المختلفة وهو ما أدى إلى فوضى في بعض الأماكن والعنف في مناطق أخرى, و لكن تونس نجحت بعد جهد كبير في الاتفاق على الدستور الذي كسب إجماع وطني, أما في مصر، نتيجة للصراع على السلطة بين الفصائل المختلفة - المحافظين المتدينين , الليبراليين, النظام القديم والثورة، أصبح لدينا مسرح دستوري لا يمكن أن يستوعبه العقل, حيث كان لدينا سبعة إصدارات للدساتير في أربع سنوات قبل أن نستقر على واحد, وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية كانت مصر بدون برلمان, في ليبيا .. البداية كانت مرحلة انتقالية فاشلة قبل الحرب الأهلية، واثنين من البرلمانات والحكومات المتنافسة، وبطبيعة الحال لا يوجد اتفاق على الدستور. وبعد عقود من القمع، حيث كانت الثقافة والمؤسسات الديمقراطية غائبة، لم يكن هناك خطة لليوم التالي وهو ما قاد إلى صعوبة التوافق في الآراء بشأن القيم والقوانين الأساسية التي ينبغي أن تحكم المجتمع الذي يتسم بالتعددية خلال الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، وهنا ينبغي أن يكون التركيز على بناء ثقافة ديمقراطية جديدة ومؤسسات جديدة، بغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية , فالبديل هو العنف, نحن نبحث عن صيغة لكيفية العيش معا بروح المصالحة والتسامح من خلال النظر إلى الأمام هو أمر لا بد منه , وهنا ينبغي الإشادة بتجربة جنوب أفريقيا في هذا الصدد على حد سواء فهي مفيدة وملهمة أما التجربة التونسية الوليدة من جانب الإسلاميين والعلمانيين معا، يمكن أن يكون نموذجا للآخرين. واحدة من أكثر القضايا تعقيدا ومثيرة للانقسام هي طبيعة العلاقة بين الدين والمؤسسات الدينية، والأخلاق، وسيادة القانون والدولة، والسؤال هو ما إذا كانت هناك حاجة إلى الإصلاح الديني، أم أن هذا الصراع هو نتيجة لفقدان القدرة على الانخراط في قالب الدولة فيسعى الناس للبحث عن هوية أساسية في الدين أو العرق أو الجنس، وهنا يحدث الصراع ، أعتقد أننا بحاجة لاتخاذ تدابير في كلا الاتجاهين الإصلاح الديني و تحفيز المواطنة . يجب أن يشعر الناس بأن حقوقهم وحرياتهم وحمايتها واحترامها في الممارسة وليس على الورق فقط و يمكن القول بان أفريقيا تحرز بعض التقدم في مجالات المشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان و رغم ذلك لابد من زيادة مساحة المجتمع المدني، النقابات العمالية والنقابات المهنية والأحزاب السياسية وما إلى ذلك أيضا وسائل الإعلام لبث حر و مستقل هو المفتاح خاصة في البلدان التي تكون فيها الأمية على نطاق واسع وبطبيعة الحال فأن وجود نظام قضائي مستقل يحترم قواعد العدالة المقبولة على المستوى العالمي هو شرط لا غنى عنه , إضافة إلى تعزيز شعور الناس بالانتماء إلى الدولة التي لن تصل إلى تلك النتيجة, إلا عندما تحترم كرامة الإنسان والحريات الأساسية فإذا لم يحدث فان سلطة الدولة ستبدأ بالتلاشي وتزيد الصراعات والعنف في أشكاله المتعددة, وفي كثير من الأحيان يكون العنف المستشري في المجتمع مغريا للحكومات لاتخاذ التدابير التي تحد من الحقوق والحريات باسم القانون والنظام و "الأمن القومي".
في حين أن بعض هذه التدابير قد يكون لها ما يبررها في ظروف استثنائية ومتطرفة، وهناك اعتقاد خاطئ لدى البعض بأن التدابير الأمنية وحدها سوف تحل المشكلة, ولكن كما نعلم جيدا، العنف يولد العنف, و يخبرنا التاريخ أن السبيل الوحيد لبناء مجتمع مستقر ومسالم ومتماسك هو من خلال احترام حقوق الإنسان والمساواة , فالاستقرار دون الحرية هو استقرار زائف ينتظر لحظة الانفجار. الصحة والتعليم والإسكان والرعاية الاجتماعية , ومن قبلها توفير فرص للعمل، هذه هي التحديات الأولى التي تواجه أفريقيا, يجب على الحكومات تهيئة الظروف التي يمكن للقطاع الخاص أن يزدهر من خلالها, ولكن علينا أن نكون على علم، مع ذلك، أن تحرير الاقتصاد لا يعفي الدولة من مسؤوليتها الأساسية للتأكد من أن كل شخص لديه مستوى معيشي لائق والحصول على الاحتياجات الأساسية, و المشكلة أن خطط التنمية تقيس معدل النمو بشكل مجرد فقط ، ولا تقيس نجاح السياسات الاجتماعية في خلق فرص العمل، وهو ما يقود إلى عدم المساواة والاضطرابات الاجتماعية نتيجة ذهاب هذا النمو إلى فئة بعينها, فخطة التنمية في مصر قبل ثورة 2011 كانت تبدو جيدة, فهناك نسبة عالية من النمو و لكن في ظل ارتفاع معدلات البطالة، مع عدم وجود أو تأثير يذكر لذلك النمو على التخفيف من حدة الفقر، مما أدى إلى اتساع الفجوة داخل المجتمع مع تزايد عدم المساواة.
لذلك يجب التصدي بحزم لشبكات المحسوبية والفساد التي تظهر مع التحرر الاقتصادي. فعلى حد قول منظمة الشفافية الدولية : " الفساد .. يقوض العدالة والتنمية الاقتصادية ويقضي على الثقة العامة في الحكومة والقيادة"، فأفريقيا تخسر أكثر من 50مليار دولار سنويا، نتيجة للتدفقات المالية غير المشروعة، من خلال التهرب من الضرائب والرشوة وأشكال الفساد الأخرى، مما يجعلها مدينة على الدوام لبقية العالم وهو أمر لا يصدق! النتيجة الصادمة هو أنه في السنوات الخمسين الماضية، فقدت أفريقيا حوالي ما يعادل كل المساعدة الإنمائية الرسمية التي تلقتها خلال الفترة الزمنية نفسها بسبب التدفقات المالية غير المشروعة , الفساد المستشري آفة تآكل في المجتمعات من أعلى إلى أسفل وهناك الكثير من الفساد في القطاع العام، لأسباب منها الأجر الضئيل , انخفاض جودة التعليم ، وعدم الحصول على الخدمات الصحية، وارتفاع تكلفة الاحتياجات الأساسية، وعدم كفاية البنية التحتية.. الخ. التعليم في حالة حرجة في ليبيا و مصر, فهناك ارتفاع لمستوى الأمية وانخفاض جودة التعليم العالي, و هذا هو السبب في أن دول مثل سويسرا وسنغافورة لديها القليل من الموارد الطبيعية, و لكنها من بين أغنى الدول بسبب مستوى التعليم , و أفريقيا لديها أكبر نسبة من الشباب في العالم , إذ يشكل الشباب تحت سن الثلاثين 70% من تركيبة المجتمع ,, ليس النفط أو الذهب هو المورد رقم واحد و لكن الشباب المتعلم بشكل ممتاز يمكن أن يكون موردا يفوق كل الثروات الطبيعية ,, وهؤلاء النوعية المتعلمة من الشباب ستكون سعيدة جدا لاستخدام مهاراتهم وخبراتهم في الوطن بدلاً من هجرة العقول النابغة لبناء أوطان أخرى فهناك عدد من البلدان، معظمها في آسيا، لديها سياسات ضد هجرة النوابغ كما هو الحال في كوريا الجنوبية والصين. إن معظم أفريقيا لا تزال تعاني من ضعف البنية التحتية في جميع أنحاء القارة، ونحن نرى مجموعة كبيرة من القوانين والخطط والرؤى من أجل التنمية، ولكن كثيرا ما كانت موجودة على الورق فقط ويتعين على الحكومات أن تتعلم تحويل الكلمات إلى أفعال , دعونا نلقي نظرة على الطاقة التي هي محرك أساسي للنمو, هناك 600 مليون نسمة في إفريقيا لا يحصلون على الكهرباء ويفتقرون إلى خدمات الطاقة الحديثة بأسعار معقولة وموثوق بها, هذه الخدمات السلاح الحاسم للحد من الفقر وتحسين الصحة وزيادة الإنتاجية، وتعزيز القدرة التنافسية زيادة النمو الاقتصادي , فالقارة الأفريقية لا تزال تغرق في الظلام بعد غروب الشمس و أطفال المدارس لا يمكنهم القراءة بعد الغسق، و بالطبع لا يمكن للشركات أن تعمل مساء و لا العيادات أو المستشفيات، فالقدرة التوليدية للقارة الإفريقية _باستثناء جنوب إفريقيا – هي 28 جيجا وات، أي ما يعادل إنتاج الأرجنتين وحدها رغم أن الدول الأفريقية تتمتع بموارد هائلة من الطاقة الطبيعية - النفط والفحم والغاز، ناهيك عن الطاقة المائية والطاقة الشمسية و لكن أفريقيا تستخدم 3% فقط من هذه الموارد عبر أنتاج الطاقة من خلال تدفق المياه, وثمة مجال هام فشلت أفريقيا في تنفيذه وهو التكامل الإقليمي الفعال والتعاون المشترك بين البلدان المتجاورة, و يتيح التكامل الاقتصادي الإقليمي للبلدان القدرة على المنافسة بشكل أكثر فعالية، ويعزز النمو الاقتصادي والاستقرار. ولكن اليوم، تجارة البلدان الأفريقية ضئيلة للغاية مع بعضها البعض وتحتاج أفريقيا إلى الانتقال من الاعتماد المفرط على التجارة الخارجية إلى توسيع التجارة الإقليمية، لخلق فرص العمل وتوسيع الأسواق المحلية و على الصعيد الدولي، يتعين على البلدان الأفريقية المشاركة في تعاون سياسي حقيقي وتطوير مواقف موحدة غير موجودة في الوقت الحالي وهو ما ينعكس بشكل رقمي بزيادة الإنفاق العسكري في أفريقيا بنسبة 65٪ على مدى العشر سنوات الماضية فقط و هو ما يعكس مخاوف دول الجوار بعضها تجاه الأخرى و يؤكد على أن بيئة السلام والأمن هي هشة للغاية, ورغم ذلك فان يمكن القول بان الحكومات بشكل عام في أفريقيا آخذة في التحسن في العديد من النواحي، ومستقبل مشرق ينتظر القارة فمنذ أكثر من عشر سنوات وصفت "الإيكونوميست" أفريقيا على أنها "قارة ميئوس منها ". ولكن في عام 2011 نشرت نفس الصحيفة تحت عنوان "أفريقيا المشرقة". أفريقيا هي الآن في المنطقة الثانية الأسرع نموا بعد آسيا، بمتوسط معدل نمو مشجعة ولكنها لا تزال غير كافية لحوالي 5٪. إذ يمكن لأفريقيا أن تفعل ما هو أفضل. أفريقيا اليوم لديها كل الإمكانات للخضوع لعملية التحول الثقافي كما كان يحلم الآباء المؤسسين ونشر ثقافة السلام القائم على الكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، والتعاطف، والتضامن وهذا يتطلب مجموعة من التدابير السياسية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية تقوم على المساواة، والثقة، والحوار؛ بيئة تقيد الدافع الإنساني للعنف، بحيث نغير تفكيرنا ونفهم أننا نفس الأسرة البشرية، بغض النظر عن الاختلافات السطحية لدينا من الدين أو العرق أو الجنس. التحديات التي نواجهها هي أكبر من قدرة أي بلد بمفرده , سنقوم السباحة معا أو نغرق معا. وقال وليام جيمس "نحن مثل الجزر في البحر، منفصلة على السطح ولكن ترتبط في العمق." لقد حان الوقت للتفكير بشكل مختلف، والتصرف بشكل مختلف و كما قال نيلسون مانديلا لنا " دائما يبدو الأمر مستحيلا حتى يتم ذلك فينتهي المستحيل ".